الحادث المروع الذي استقبلت فيه مدينة الإسكندرية المصرية العامَ الجديد، بالتفجيرات أمام كنيسة القديسين، لا ينم عن شجاعة ولا عن انتماء ولا عن عقلانية في التعامل مع الأمور. ولئن كانت هناك حالة فردية تعلقت بتهديدات "القاعدة" لأقباط مصر عقب دعوات للتحرك من أجل زوجتي كاهنين قبطيين قيل إن إحداهما اعتنقت الإسلام وتم اعتقالهما، وكذلك بيان من "مركز المجاهدين" التابع لتنظيم "القاعدة" والذي أعلن فيه مسؤوليته عن التفجيرات... فإن معاقبة الأخوة المسيحيين عامة، وتعكير الأمن في دور العبادة التي يحترمها المسلمون ويجلونها، هو عمل من أعمال الوحشية والتخلف والتعصب التي ما عادت تناسب العصر، خصوصاً وأن البلدان العربية، حكومات وشعوباً، بدأت منذ أحداث 11 سبتمبر 2001 الدعوة لحوار الأديان، وشهدت العواصم العربية ندوات ومؤتمرات لمحاولة إرساء قواعد التحابب والتقارب بين الديانات الثلاث وقبول الآخر. لقد تآخى الهلال والصليب على أرض مصر منذ ثورة سعد زغلول، ولم يحدث ما يمكن اعتباره تعكيراً لتآخي المجتمع المصري بكل طوائفه، خصوصاً بين المسلمين والأقباط. وإن ثبت أن قاموا بهذا العمل الجبان هم من المسلمين، فإنه ينبغي تذكيرهم بما جاء في القرآن الكريم، إن كانوا يعقلونه. فقد قال تعالى: "قولوا آمنا بالله وما أنزل إلينا وما أنزل إلى إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب والأسباط وما أوتي موسى وعيسى وما أوتي النبيون من ربهم، لا نفرق بين أحد منهم ونحن له مسلمون" (سورة البقرة، آية 136). كما أن القرآن الكريم حفل بالعديد من القيم التي تحرّم قتل النفس. والعمل الجبان الذي راح ضحيته أكثر من عشرين قتيلاً وحوالي 100 جريح، هو مخالفة صريحة لما جاء في سورة الفرقان الآية 68: "والذين لا يدعون مع الله إلهاً آخر ولا يقتلون النفس التي حرّم الله إلا بالحق ولا يزنون ومن يفعل ذلك يلقَ آثاماً". فأي إثم أكبر من سلب الفرحة من عيون إخواننا المسيحيين في أول أيام العام الميلادي الجديد؟ وأي إثم أكبر من سلب الروح بقرار فردي غوغائي يبتعد عن حق واهب الروح في أخذها متى شاء؟ ومن هم هؤلاء الذين يقررون من يموت ومتى يجب أن يموت؟ ولئن آمنَ مرتكبو الحادث المؤسف -والذي نأمل ألا يترك جراحاً غائرة في النسيج الوطني المصري، بعد أن هرع المسلمون إلى نقل المصابين المسيحيين على أكتافهم نحو المستشفيات- بأنهم سوف يكررون في مصر ما فعلوه في العراق، فإن تاريخ مصر ومتانة علاقة المحبة والتكافل بين مسلميها وأقباطها كفيلان بوقف أي محاولة من ذلك النوع. ولقد وصانا الكتاب الكريم بأن ننتمي لبعضنا مهما اختلفت أفكارنا واتجاهاتنا، يقول عز وجل في سورة العنكبوت، الآية 46: "ولا تجادلوا أهل الكتاب إلا بالتي هي أحسن، إلا الذين ظلموا منهم وقولوا آمنا بالذي أنزل إلينا وأنزل إليكم إلهنا وإلهكم واحد ونحن له مسلمون". هذه هي حقيقة الإسلام وهذه هي القاعد الواضحة في تعامل الرسالة المحمدية مع الأقوام والديانات الأخرى. والدعوة واضحة في أن الأديان والرسائل السماوية تكمل بعضها، ولئن كان بعض غلاة المسلمين قد صدرت منهم أقوال تحريضية ضد إخواننا المسيحيين من على المنابر، في عصور التخلف والجهل، فإن ذلك ينم عن اجتهادات وعصبية لا تمت للإسلام بشيء. وعلى جانب آخر، وبعد قاعدة "لكم دينكم ولي دين"، فنحن لم نشهد من إخواننا المسيحيين الذين تعاملنا معهم -وكنت قد سكنت بالقرب من مكان الحادث قبل 35 عاماً أيام الدراسة في جامعة الإسكندرية- إلا كل محبة وصدق ومودة تفوق ما شهدناه من بعض المسلمين الذين خالفوا الكثير من تعاليم القرآن في التعامل وخبايا الصدور. يقول إنجيل متى في إصحاحه السادس: "طوبى للمساكين بالروح، لأن لهم ملكوت السموات، طوبى للحزانى لأنهم يتعزون، طوبى للورعاء لأنهم يرثون الأرض، طوبى للجياع والعطاش إلى البرّ، لأنهم يُشبعون، طوبى للرحماء لأنهم يرحمون، طوبى لأنقياء القلب، لأنهم أبناء الله يُدعون". هذا كلام لا يختلف عما في قرآننا الكريم، فكم من آية حثت على العطف على المساكين، ومواساة الحزانى، وحسن الخلق، وعمل الخير، ورحمة الآخرين. وكم من مرة وردت "الرحمن الرحيم" في قرآننا الكريم. وفي صورة تطهرية، تعنى المسيحية بقيم التسامح والتفاني في التعامل مع الآخر. ورد في إنجيل لوقا (الإصحاح الرابع): "لكني أقول لكم أيها السامعون، أحبّوا أعداءكم، أحسنوا إلى مُبغضيكم، باركوا لاعنيكم، وصلّوا لأجل الذين يسيئون إليكم". هذه هي قيم المسيحية التي جاء الإسلام ليكملها لا ليرفضها أو يقتل أصحابها. لذلك فإن العمل الجبان بعيد جداً عن روح الإسلام، وهو بلا شك محاولة سياسية لتعكير الأمن في مصر، وإثارة الفتنة بين أبناء الشعب الواحد. وحريّ بالطائفتين (المسلمة والمسيحية) في مصر أن تتساميا فوق الجراح، وأن تتحد صفوفهما وتصفو نفوسهما وألا يدعان فوران الانتصار الأعمى للطائفة أن يهدد أمن مصر. كما أن على وسائل الإعلام لدى الطائفتين أن تهدي لسواء السبيل وألا تدخل في القضايا الشائكة وتبادل الاتهامات. إذن هذه حلقة أخرى من حلقات الإرهاب الذي أدانه كل العالم، ولابد بعد أن نجحت الأصابع الخفية في خلق بؤر بين المسلمين أنفسهم (سنة وشيعة وزيدية) في مناطق عديدة من العالم العربي، أن تأتي هذه الحلقة لخلق ذات البؤر بين المسلمين والمسيحيين. وعليه فالوحدة الوطنية من أهم عوامل قطع الطريق على الإرهابيين الذين يؤمنون بحوار الدم لا حوار العقل.