في مقال بـ "واشنطن بوست" قبل أيام، يسجل جاكسون ديل، حواراً جرى بين وزيرة الخارجية الأميركية، وأحد المعارضين البرلمانيين في دولة عربية، تمكن من توجيه سؤال لها عقب إلقائها خطاباً امتدحت فيه التقدم الاجتماعي والسياسي والاقتصادي في تلك الدولة. حيث أشار عضو البرلمان إلى "اعتقال الكثير من الناس، والمحامين، ونشطاء حقوق الإنسان". وجاء رد كلينتون أنّه "من السهل التركيز داخلياً ورؤية نصف الكأس الفارغ. وأنا أرى الكأس نصف ممتلئ". وأوضحت: "أنا أعني أنّ الناس يعتقلون... لكن من جهة أخرى فإن الانتخابات مقبولة إلى حد كبير... لذا يجب أن ترى الصورة ككل". وما يورده ديل، مجرد نموذج للسياسة الأميركية الخارجية في ظل إدارة أوباما، والتي اتضح أنّها سياسة "واقعية" كلاسيكية بامتياز، أي لا يوجد اهتمام حقيقي بما يجري داخل الدول الأخرى، والتركيز هو على تساوق سياسات الأنظمة مع المصالح الأميركية، ومدى استقرار هذه الأنظمة. وهذا ينطبق على دول العالم ككل وليس العربية فقط. هذا يناقض سياسة "المحافظين الجدد" في ظل إدارتي بوش الابن، خصوصاً في السنوات الست الأولى منهما، حيث شكّل نشر القيم الأميركية والليبرالية الديمقراطية ركناً أساسياً للسياسة الخارجية. بطبيعة الحال ما يطرحه ديل وآخرون، ومنهم المحافظون الجدد بشأن حقوق الإنسان والحريات، له شق أميركي مصلحي خالص مرتبط بإسرائيل، وانطلاقاً من فرضية غريبة، هي أنّه إذا أصبحت الدول العربية ديمقراطية فإنها لا تحارب إسرائيل، لأنّ "الأنظمة الديمقراطية لا تقاتل". ويعبر ديل في المقال المذكور عن هذه الفكرة بالإشارة إلى أنّ من نتائج سياسة إدارة أوباما "أنّ الجمعية العامة للأمم المتحدة يسيطر عليها من ينتهكون حقوق الإنسان ويخصصون معظم جدول الأعمال لشجب إسرائيل". عندما حرصت إدارة بوش على نشر الديمقراطية، كانت تتحرك من أن نشر القيم الأميركية عالمياً يخدم مصالح الولايات المتحدة وحلفائها، وخصوصاً إسرائيل (عندما يتعلق الأمر بالشرق الأوسط)، ويقلل العداء للولايات المتحدة. وعندما تراجعت تلك الإدارة عن هذه الفكرة، كان من أسباب ذلك اكتشافها أنّ الديمقراطية تأتي بالاتجاهات الراديكالية المعادية للولايات المتحدة وإسرائيل. وعندما قررت إدارة أوباما أنّ لا تهتم بالديمقراطية، لم يكن هذا احتراماً منها لسيادة الدول واستقلالها، بل لأنّ التعامل مع الدول والأنظمة القائمة أسهل من التعامل مع الشعوب، والحفاظ على الوضع القائم أكثر أماناً من إعادة ترتيب شؤون الدول المختلفة. وفي المقابل، فإنّ الشعوب العربية، لاسيّما النخب السياسية المعارضة والمنادية بالتغيير، تعاملت إلى حد كبير مع طروحات إدارة بوش، بقدر من الانتهازية، فوجدنا فيضاناً من المثقفين والكتّاب الذين يتاجرون بالإصلاح والليبرالية، سعياً وراء تمويل هنا أو هناك، يأتي على شكل منح أميركية وغربية لورش عمل، ودراسات، وبعثات تعليمية، وأنشطة مختلفة. وشهدنا قوى طائفية وأصولية تسعى للاستفادة من الدعوات الأميركية للانتخابات لتحقيق مكاسب فئوية وشخصية، ولممارسة ديمقراطية المحاصصة أو ديمقراطية المرة الواحدة، فيما اضطرت الأنظمة لديمقراطية مترددة بحسابات وحدود معينة. والآن نجد انكفاءً للأنظمة وسط مباركة أميركية، وانكفاءً للقوى العربية المنادية بالديمقراطية، أو إصراراً على رؤية الانتخابات كمعبر لتحقيق مكاسب طائفية وفئوية، وصعوداً للمال السياسي والمصالح الشخصية. وفي الحالتين لا يبدو أنّ لدينا أنظمة أو قوى سياسية وطنية منظمة، أو قوى دولية مهتمة فعلاً بالديمقراطية الحقة والحريات.