جاء في كتاب وفيات الأعيان لابن خلكان أن الفارابي لما ورد على سيف الدولة، وكان مجلسه مجلس الفضلاء في جميع المعارف، فأدخل عليه وهو بزي الأتراك، وكان ذلك زيه دائماً، وقف فقال له سيف الدولة: اقعد. فقال: حيث أنا أم حيث أنت؟ قال: حيث أنت. فتخطى رقاب الناس حتى انتهى إلى مسند سيف الدولة وزاحمه فيه حتى أخرجه عنه. وكان على رأس سيف الدولة مماليك وله لسان خاص يتفاهم به معهم قل أن يعرفه أحد. فقال لهم بذلك اللسان: إن هذا الشيخ أخرق، وقد أساء الأدب، وإني مسائله عن أشياء فإن أفلح في الإجابة فاتركوه وإن لم يوف بها فعليكم به. وكان هذا يعني القتل في عيون الحرس. فخاطبه الفارابي بنفس اللسان قائلاً :أيها الأمير لا تعجل واصبر، فإن الأمور بعواقبها، فتعجب سيف الدولة منه: وقال له: وهل تحسن هذا اللسان؟ قال: أيها الأمير ليس هذا اللسان وحسب، بل أُحسٍنُ أكثر من سبعين لساناً. فعظم في عين الأمير. ثم إن الفارابي أخذ يتكلم مع العلماء الحاضرين في كل فن. فلم يزل كلامه يعلو ولا يعلى عليه وكلامهم ينزل ويسفل حتى صمت الكل وبقي يتكلم وحده، عند ذلك خشع القوم والتفتوا إلى أوراقهم فبدأوا يكتبون ما يقوله فصرفهم سيف الدولة وخلا به فقال له: هل أحضر لك الطعام؟ قال: لا حاجة لي به. قال: فهل تشرب، قال: لا. قال: فهل تسمع فأعطيك ما لذ من الأنغام؟ قال: نعم. فأمر سيف الدولة بإحضار الفتيان فحضر كل ماهر في هذه الصناعة، فلم يحرك أحد منهم آلته إلا وعابه الفارابي وقال له أخطأت. فقال له سيف الدولة: وهل تحسن في هذه الصناعة أيضاً؟ فقال: نعم. ثم أخرج من وسطه خريطة فيها عيدان فقام وركبها ثم لعب بها فخرجت موجة من الألحان أطربت القوم وهيجتهم فضحك كل من في المجلس. ثم فكها وركبها تركيباً آخر وضرب بها نغماً شجياً فلم يبق أحد في المجلس إلا وبكى. ثم فكّها وغير فيها وضرب من الأنغام الشيء الجديد والمرخي، فنام كل من في المجلس، فقام الفارابي وجمع أغراضه وانصرف والقوم غاطون في النوم. أروي هذه الواقعة من تاريخنا الإسلامي حتى نعرف ذروة العبقرية التي وصلها بعض علمائنا. ومع هذا فقد انعزل الرجل في بقية حياته وكان يعيش من أربعة دراهم يصرفها عليه الأمير! وبالمقابل فهناك من يحقن أدمغة الشباب بتحريم الغناء والموسيقى مستدلاً بأحاديث ضعيفة وموضوعة مثل ذلك الحديث الذي يقول إن من يستمع مغنية عقابه أن تفتح أذنيه ثم يصب الرصاص المذاب فيهما! وهو ما دفع ابن حزم الأندلسي قديماً للقول بأنه لا يوجد حديث صحيح واحد يفيد بتحريم الموسيقى والغناء. وأعجب دليل يسوقونه هو الآية من سورة لقمان: "ومن الناس من يشتري لهو الحديث"، وهو قد يفيد أي شيء سوى تحريم الموسيقى والغناء. هذه عينات من الفن والفكر تقول إنه لابد من بناء ثقافة إسلامية معاصرة، وتبني مناهج تعليم جديدة، ولابد من إصلاح ديني. والحكمة تنصحنا أن نقول كلاماً لا يزعج مستيقظاً ولا يوقظ نائماً لحين وقوع زلزال سياسي وثقافي في بلد عربي آخر. ألا يحق للفأر أن يتشاءم إذا رأى قطة سوداء؟