أبى العام أن ينصرم إلا بحادث إرهابي بشع استهدف كنيسة القديسين "مارمرقس والأنبا بطرس" بمنطقة سيدي بشر بالإسكندرية، وراح ضحية العمل الإرهابي 12 قتيلاً و79 جريحاً أغلبهم من المسيحيين الأبرياء الذين جاءوا لأداء الصلوات والاستماع إلى القداس والاحتفال بمناسبة العام الميلادي الجديد، وقع التفجير الإرهابي بعد منتصف الليل بـ25 دقيقة، عشية أول أيام العام الجديد، وحسب المصادر الأمنية فإن العبوة الانفجارية محلية الصنع، وقد تم إعدادها لإحداث أكبر عدد من الإصابات، وكان من بين المصابين ضابط و3 جنود كانوا حراساً للكنيسة. ويأتي العدوان على كنيسة الإسكندرية في سلسلة الاعتداءات التي تستهدف الكنائس في منطقة الشرق الأوسط من قبل "القاعدة" والتي سبق وأن هددت باستهداف المسيحيين في مصر غداة عدوانها على كنيسة "سيدة النجاة" ببغداد ليلة عيد القديسين في 31 أكتوبر 2010، حيث وقعت مجزرة بشعة أودت بحياة 52 شخصاً، وكان من تداعيات هذه المجزرة تهجير المسيحيين والأقليات الدينية التي استوطنت العراق منذ عصور سحيقة. بهذا العمل الإجرامي الجديد يتأكد استهداف المسيحيين في المنطقة، ويتأكد كون "القاعدة" والجماعات المتعاطفة معها تريد بث الذعر والخوف في نفوس الطائفة المسيحية لكي تدفعها إلى الهجرة وترك أوطانها. وفي مقالة سابقة كنت ذكرت ما نصه: لقد كانت مشكلة المواطنين المسيحيين في بلادنا، مشكلة قيود وحدود -أي مشكلة أقلية دينية لا تتمتع بحقوقها على قدم المساواة مع الأغلبية المسلمة- وأصبحت اليوم مشكلة بقاء ووجود، لقد عاش المسيحيون آمنين مطمئنين على حياتهم وعلى كنائسهم على امتداد التاريخ الإسلامي قروناً متطاولة، واليوم الدولة الوطنية عاجزة عن توفير الحماية لهم، هناك تصريحات ووعود كثيرة من قبل المسؤولين ولكن ما يحصل على أرض الواقع للمسيحيين يناقض تلك التصريحات ويثبت استمرار مخطط "القاعدة" في تهجير الأقليات الدينية التي تعيش تحت تهديد مستمر من قبل المتطرفين. لقد ترك 80 في المئة من صابئة العراق وطنهم و60 في المئة من المسيحيين العراقيين رحلوا، أما اليهود فلم يبق منهم في اليمن إلا 300 شخص. والمشكلة أنه عندما يطالب البابا بضرورة حماية المسيحيين في الشرق الأوسط، يتصدى له البعض عندنا ويرد عليه بأن هذا تدخل غير مقبول في شؤوننا! لكن عندما نستنكر ما يتعرض له المسلمون في الغرب من حماقات اليمين الأوروبي المتطرف، فهذا تدخل واجب ومقبول! دعونا نتساءل: لماذا يستهدف متطرفونا المسيحيين؟! الجواب لأنهم أبناء ثقافة الكراهية التي اختزنتها الأرض العربية على امتداد قرن بفعل منابر دينية دأبت على الدعاء على النصارى واليهود، وكان خطباء بعض المساجد على امتداد الساحة الإسلامية يرددون الدعاء العدواني المشهور "اللهم عليك بهم، اللهم احصهم عدداً، واقتلهم بدداً، ولا تبق منهم أحداً، اللهم يتم أطفالهم ورمِّل نساءهم وزلزل الأرض من تحت أقدامهم". ومن اطّلع على الكتيب الذي ألَّفه الأصولي المصري التائب خالد البري "الدنيا أجمل من الجنة"، يتضح له أسلوب الجماعات المتطرفة في غرس ثقافة الكراهية في نفسيات الشباب وبخاصة ضد المسيحيين، يقول المؤلف: إن الشيخ طارق إمام المسجد الذي كان يرتاده كان يكرر دائماً: إن ملة الكفر واحدة، والغرب المسيحي يساند إسرائيل اليهودية لأنه يخاف أن يعود المسلمون إلى دينهم. وهكذا تحول هذا المراهق الذي انضم إلى الجماعة المتطرفة في منتصف الثمانينيات في مصر والذي درس المرحلة الابتدائية في مدرسة مسيحية، إلى كراهية المسيحيين وإلى الاشتراك في حوادث إجرامية ضد التجار الصاغة المسيحيين بحجة أن أموالهم حلال كما أفتى لهم شيخهم، ومما يغذي هذه الثقافة المعادية ما يردده خطباء بعض المساجد في خطبهم كلما اقترب موعد احتفال المسيحيين بأعيادهم أو بمناسبة احتفال العالم بالعام الميلادي الجديد، من عدم جواز تهنئة المسيحيين أو حضور هذه الاحتفالات، لأن ذلك نوع من "التشبه بالكفار" يحرم على المسلمين ممارسته. هذا الموقف الديني المتشدد والذي يسود البيئة المجتمعية عبر استيراد أقوال فقهية متشددة من قرون غابرة واستنطاق نصوص دينية في غير معناها السليم، عامل من عوامل الشحن ضد الأقليات الدينية. صحيح أن هناك اجتهادات فقهية مستنيرة لا ترى بأساً في تهنئة النصارى ومشاركتهم الاحتفالات استدلالاً بقوله تعالى: "لا ينهاكم الله عن الذين لم يقاتلوكم في الدين ولم يخرجوا من دياركم أن تبروهم وتقسطوا إليهم، إن الله يحب المقسطين". وصحيح أن الزعماء الدينيين في المؤسسات الإسلامية في بعض البلاد الإسلامية تقوم بزيارة الرموز الدينية المسيحية للتهنئة في هذه المناسبات الدينية، لكن ذلك توجه غير سائد ومخالف للتوجه الفقهي العام، ما الذي يمنع المسلمين من مشاركة العالم في احتفالات رأس السنة، استبشاراً بقدوم العام الجديد؟ يقولون إنه مناسبة خاصة بالمسيحيين! لكن ألسنا أولى بالاحتفاء بمولد عيسى عليه السلام؟ ألم يصم رسولنا عليه الصلاة والسلام عاشوراء عندما قدم المدينة ورأى اليهود تصوم في يوم عاشوراء فسأل ما هذا؟ قالوا هذا يوم صالح نجَّى الله بني اسرائيل من عدوهم فصامه موسى، فقال الرسول صلى الله عليه وسلم: فأنا أحق بموسى منكم، فصامه وأمر بصيامه، وفي رواية أخرى للبخاري: فقال لأصحابه: أنتم أحق بموسى منهم فصوموا، أما المفهوم التراثي لعدم التشبه بالكفار، فيجب تفكيكه وفهمه فهماً يتسق والمفهوم القرآني والنبوي في إحسان التعامل مع الآخر المخالف وفي الإفادة من منجزاته وخبراته، فنحن لم نتقدم إلا حين تشبهنا بالآخر في نظمه الحضارية وفي مقومات معيشته.