بعد أن أقدم على تمديد فترته الرئاسية لخمس سنوات إضافية قرر رئيس ساحل العاج، لوران جباجبو، فجأة تنظيم انتخابات رئاسية معتقداً أن النتيجة محسومة لصالحه، وبأنه سيكون الفائز الأوحد في الانتخابات ليتوج رئيساً لفترة أخرى. لكن يبدو أن حسبات البيدر والحقل جاءتا مختلفتين تماماً وذُهل جباجبو عندما أظهرت النتائج فوز منافسه الحسن وترا الذي حصل على 54 في المئة من أصوات الناخبين. وبدا أنه يتقدم بخطى واثقة نحو الرئاسة، لولا أن الرئيس المنتهية ولايته، جباجبو، أصر على عدم التنازل، وأعلن نفسه وبصفة أحادية أنه رئيس البلاد مهما كانت النتائج، ومهما كانت الإرادة الشعبية. ولم ينفع في إقناع "جباجبو" أن اللجنة العليا للانتخابات قضت بفوز الحسن وترا ولا حتى التنديدات الدولية لاغتصابه الواضح للسلطة، الذي يريد "جباجبو" تكريسه في البلاد، حيث اتفقت الأمم المتحدة والاتحاد الأوروبي وأميركا ومعهم المجموعة الاقتصادية لدول غرب أفريقيا"الإيكواس" والاتحاد الأفريقي على الاعتراف بفوز الحسن وترا، وإدانة التمسك الغريب بالسلطة من قبل "جباجبو" الذي ضرب بعرض الحائط الشرعية الديمقراطية في تأكيده على أن ما يهمه هو البقاء في السلطة مهما كانت الوسائل. ومنذ الإعلان عن النتائج، دخلت البلاد في طريق مسدود تنذر بتفجر الوضع وتجدد أعمال العنف ثم عودة الحرب الأهلية التي دمرت البلاد في العام 2002، فجباجبو ورغم كل الضغوط الداخلية والخارجية مازال مصراً على البقاء في السلطة، وربما لهذا السبب سماه معارضوه "بالخباز" لمناوراته العديدة وضربه الخصوم بعضهم ببعض للحفاظ على الرئاسة، وهو يبدو أنه يفضل ترؤس بلد في أزمة، بل ربما على شفا الانهيار والدمار، على أن يقر بوضعه كرئيس سابق لبلد معافى وبعيد عن الأزمات. والرئيس "جباجبو" بكل هذا الإصرار على الرئاسة والإمساك بالسلطة إنما يعول أولاً على بعض قادة الجيش الذين يستمر دعمهم له، لا سيما اعتماده على تململ المجتمع الدولي وفقدانه الاهتمام بما يجري في ساحل العاج حتى يستمر في السلطة، فهو يأمل أنه بعد موجة الانتقادات والإدانات الغربية والأفريقية والمناشدات العديدة له بتغليب مصلحة البلاد على مصلحته الضيقة أن الأمر في النهاية سيرسو على لا شيء، وسيعترف له المجتمع الدولي بالشرعية، لذا يعتقد أن كل ما عليه القيام به في هذه المرحلة، هو تحمل الانتقادات مهما كانت لاذعة وصم أذنيه عن المطالب الدولية مهما كانت مشروعة، لا سيما وأنه لن يكون الرئيس الأفريقي الوحيد الذي يسرق الانتخابات ويستولي على السلطة بحكم الأمر الواقع والإصرار على عدم التنازل. على سبيل المثال، فإنه رغم كل الضغوط الدولية والانتقادات المتوالية، استطاع رئيس زيمبابوي روبرت موجابي، الاستمرار رئيساً للبلاد غير آبه بالتنديدات الدولية التي لم تجدِ نفعاً في زحزحته من السلطة، وقد كانت واضحة الألاعيب التي لجأ إليها لتزوير الانتخابات والانتهاكات التي دلت على عدم شرعية نتائجها. ويسعى "جباجبو" على غرار "موجابي" إلى اللعب على عامل الوقت لتخفيف شدة الضغوط من جهة وعلى استخدام ورقة السيادة الوطنية في وجه القوى الأوروبية وتذكيرها دائماً بماضيها الاستعماري للتشكيك في نواياها تجاه البلاد، رغم أن الحالة بسيطة، ولا تعدو رغبته في تجاوز نتيجة الانتخابات والإصرار على البقاء في السلطة. لكن المشكلة بالنسبة لجباجبو التي ربما لم يلتفت إليها في محاولة التشبه بموجابي هو الاختلاف الكبير بين الرجلين، ذلك أن موجابي لديه على الأقل الشرعية التاريخية، التي وإنْ كانت لا تبرر استيلاءه على السلطة من خلال تزوير الانتخابات، إلا أنها تعطيه مكانة المناضل الذي جلب الاستقلال للبلاد، وحافظ بهذه الطريقة على وجاهته في القارة الأفريقية، رغم أساليبه الاستبدادية، هذه الشرعية غير متوفرة لجباجبو؛ والأكثر من ذلك أن المجتمع الدولي، فيما يتعلق بساحل العاج، أظهر توافقاً غير مسبوق، وأثبت نفسه كقوة دولية ضاغطة دون انقسامات، وهي من المرات القليلة التي يتفق فيها العالم الغربي مع باقي الدول بما فيما التكتلات غير الغربية مثل الاتحاد الأفريقي على كلمة سواء، الشيء الذي يضفي المزيد من المشروعية على تصريحات المجتمع الدولي ومطالباته لجباجبو بالتنحي. وفي هذا الإطار يتعين الإشادة بثبات الأمم المتحدة التي لم تخضع لمطالب "جباجبو" بسحب قواتها لحفظ السلام المنتشرة في البلاد، بل بالعكس تم التمديد لها لولاية جديدة، كما أن المدعي العام المقيم في محكمة الجنايات الدولية أعلن عن مراقبته للوضع الجاري في ساحل العاج ورصده لأعمال العنف ما بعد الانتخابات في إشارة واضحة للقائمين على السلطة بأنهم تحت أعين المجتمع الدولي، وقد يُتابعون قضائياً في حال حدوث أي تجاوزات أمنية. لكن كيف لهذه الأزمة الناشئة في ساحل العاج أن تنتهي؟ حسب السيناريو الأكثر تشاؤماً، فإن البلاد قد تنزلق نحو العنف والمواجهة بين أنصار الرجلين، وهو ما سيؤدي بالبلاد إلى الدمار، أما السيناريو المثالي الذي يتوق له المجتمع الدولي، وبخاصة المجموعة الاقتصادية لدول غرب أفريقيا التي تريد الاستقرار وعدم اندلاع العنف، فهو موافقة "جباجبو" على مغادرة البلاد وعودة الشرعية بتنصيب الحسن وترا رئيساً للبلاد. وهناك سيناريو آخر يمكن الرهان عليه هو ظهور انشقاقات داخلية في صف "جباجبو" بعدما يدرك مؤيدوه داخل السلطة، لا سيما الجيش، أن البلاد مقبلة على كارثة اقتصادية وأمنية إنْ هم استمروا في مواقفهم، ما قد يدفعهم في النهاية إلى الضغط على "جباجبو" لقبول الحلول المقترحة من المجتمع الدولي والتوصل إلى اتفاق يحفظ له ماء وجهه مع رجوع الشرعية الديمقراطية إلى مستحقيها، ولا شك أن مثل هذا المخرج سيلقى ترحيباً من جميع الأطراف الدولية والإقليمية لأنه لا أحد يفضل استخدام القوة للإطاحة بـ"جباجبو" لما ينطوي عليه ذلك من زعزعة للاستقرار في ساحل العاج ودخول البلاد دوامة العنف والحرب الأهلية التي لن يكون من السهل إيقافها.