بالنظر إلى أن الصحة حالة من التكامل البدني، والعقلي، والاجتماعي، وليس فقط الخلو من الأمراض والإعاقات، فإن الشهور والسنوات الأولى من العمر تعتبر من أهم مراحل النمو والتطور التي تؤثر سلباً أو إيجاباً على الحالة الصحية العامة خلال المراحل المختلفة من رحلة الحياة. وتتأتى هذه الأهمية من التأثر الشديد لمدى النمو والتطور البيولوجي والعصبي خلال السنوات الأولى من العمر بالبيئة المحيطة بالمولود الجديد، والطفل الرضيع، حيث تساهم الخبرات الأولى في تشكيل الجوانب الصحية المختلفة، وتحديد الإنجازات التعليمية والعلمية، ومدى المشاركة الاقتصادية في المجتمع الذي ينمو ويعيش فيه الطفل لاحقاً. وبناء على هذه الحقائق ينظر الأطباء والعلماء إلى الفترة الممتدة من بداية الحمل وحتى بلوغ الطفل عامه الثامن على أنها أهم فترات الحياة على الإطلاق على صعيد النمو العقلي والجسمي للكائن البشري. فخلال تلك الفترة يمر الأطفال بمرحلة نمو سريع تتأثر سلباً أو إيجاباً بالعديد من العوامل المختلفة، مثل صحة الأم، ونوعية غذاء الطفل، وظروف البيئة المحيطة، وغيرها. وهذا ما تؤكده حقيقة أن العديد من المشاكل الصحية، والطبية، والسلوكية، والاجتماعية، التي تنتشر بين البالغين، مثل الاضطرابات العقلية والنفسية، أو السمنة، أو أمراض القلب، أو حتى السلوك الإجرامي، أو القدرات اللغوية والحسابية، يمكن ردها في كثير من الأحيان إلى مشاكل تعرض لها الطفل في السنوات الأولى من حياته. ولكن على رغم الإدراك التام لهذه الحقيقة إلا أن قطاع الخدمات الطبية والاجتماعية في العديد من دول العالم فشل حتى الآن في نشر الوعي بأهمية السنوات الأولى من الحياة، وفي توفير الدعم الكافي للأسر الصغيرة من خلال توفير المعلومات والمهارات التي يحتاجها الآباء. وهو الواقع المؤسف الذي تظهر نتيجته سنويّاً في شكل فشل أكثر من 200 مليون طفل دون سن الخامسة في بلوغ كامل إمكانياتهم العقلية والاجتماعية. وتعتبر إساءة معاملة الأطفال من أهم المحددات الاجتماعية للحالة الصحية البدنية والنفسية في المراحل اللاحقة حيث تظهر الإحصائيات والدراسات -وخصوصاً في المجتمعات الغربية- تعرض 20 في المئة من الإناث، وما بين 5 إلى 10في المئة من الذكور للاعتداء الجنسي، بينما تتميز المجتمعات الشرقية بمعدلات أعلى من الإساءة البدنية، تصل أحياناً إلى 20 في المئة أو 50 في المئة من الأطفال. ومثل هذه الاعتداءات والإساءات، تنتج عنها إعاقات بدنية وتشوهات نفسية عميقة، تؤثر سلباً على الإنجازات الاجتماعية والمهنية للشخص البالغ إلى درجة قد تعيق المجتمع برمته عن تحقيق التنمية والتطوير في المجالات المختلفة بما في ذلك المجالات الاقتصادية والسياسية. وهذه الإعاقات البدنية والتشوهات النفسية تنتج في الأساس من التوتر الشديد جراء الآلام والمعاناة التي قد يتعرض لها الأطفال بسبب سوء معاملتهم جنسيّاً وبدنيّاً، والتي تؤدي بدورها إلى اضطرابات واختلالات في المراحل المبكرة من تطور ونمو المخ والقدرات العصبية المصاحبة. ومن المعروف والثابت أيضاً أن التوتر والألم النفسي لا يعيق فقط النمو العصبي، بل يؤثر أيضاً بدرجة سلبية هائلة على فعالية وكفاءة جهاز المناعة وغيره من أعضاء وأجهزة الجسم الأخرى. وهذه التأثيرات مجتمعة تظهر في شكل حزمة متنوعة من الأمراض البدنية، والاضطرابات النفسية والعقلية، بين من أسيئت معاملتهم من الأطفال، تجعلهم عرضة للعديد من الاختلالات السلوكية الأخرى مثل الاكتئاب، وارتكاب أعمال عنف وجرائم ضد الآخرين، والتدخين، والممارسات الجنسية التي تعرضهم للأمراض المعدية وللحمل غير المرغوب فيه، وتعاطي المخدرات والكحوليات، وحتى زيادة الوزن والبدانة. ومن خلال هذه الاختلالات السلوكية وما يرافقها من ممارسات غير صحية يصبح هؤلاء الأطفال عرضة للإصابة بأمراض القلب، والسرطان، والانتحار، والأمراض الجنسية المعدية، وغيرها من الأمراض المزمنة والخطيرة. ومن السهل إدراك طبيعة العلاقة بين الاضطرابات السلوكية والأمراض القاتلة والخطيرة، فالتدخين مثلاً مسؤول عن الجزء الأكبر من حالات سرطان الرئة، وسبب رئيسي للوفيات من جراء أمراض القلب، وهي الأمراض التي تساهم فيها البدانة وزيادة الوزن بشكل كبير، بينما يؤدي شرب الكحوليات إلى تلف وسرطان الكبد. أما تعاطي المخدرات فهو سبب رئيسي خلف الجريمة وأعمال العنف. وتظل أيضاً العلاقة بين الاكتئاب والانتحار علاقة موثقة ووطيدة. ومثل هذه الشبكة العنكبوتية من المشاكل الصحية تبدأ خيوطها في مرحلة الطفولة، لتمتد أحياناً حتى آخر أيام العمر، وهو ما يظهر فداحة الثمن الإنساني والاجتماعي والاقتصادي للاعتداءات الجنسية ولإساءة معاملة الأطفال. فعلى الصعيد الإنساني نجد أن إساءة معاملة الأطفال، وبخلاف المعاناة النفسية، تؤدي بشكل غير مباشر إلى أمراض مزمنة، وإلى وفيات مبكرة. أما على الصعيد الاجتماعي فتتسبب هذه الاضطرابات السلوكية في مشاكل مجتمعية مثل ارتفاع معدلات الجريمة، وتعريض أفراد الأسر والمجتمع لأعمال عنف بدنية، قد تكون عشوائية أحياناً، بالإضافة إلى إتلاف الممتلكات الخاصة والعامة بدون سبب أو هدف. وعلى الصعيد الاقتصادي، وبخلاف فاقد الإنتاجية الناتج عن التخلف الدراسي لهؤلاء الأطفال، وضعف إنتاجيتهم المهنية، والحاجة لاستثمارات أكبر في البنية التحتية الأمنية، وفي نفقات السجون، نجد أيضاً أن المجتمع برمته يتحمل تكلفة تبلغ أحياناً عدة مليارات من جراء المشاكل الصحية التي تصيب هذه الفئة المغبونة والمظلومة، التي فقدت براءتها مبكراً، بسبب اعتداء جنسي متكرر، أو بسبب ضرب مبرح، مؤذٍ بدنيّاً وعقليّاً ونفسيّاً.