أماط موقع ويكيليكس النقاب عن تفاصيل خطيرة حول الدبلوماسية الأميركية، وقد حان الأوان لتحديد سبل تقليص خطر الكشف عن معلومات تتعلق بالأمن القومي، وتصحيح الانطباعات الخاطئة التي ولدتها التسريبات الحالية. أولاً، علينا أن نتساءل: أين يكمن الخطأ؟ وهل جندي الجيش الأميركي "برادلي مانينج" -المسؤول المفترض عن التسريبات- هو المشكلة؟ أم أن المشكلة هي ضعف أمني أوسع؟ على ما يبدو فالمشكلة مزيج من الاثنين. فبعد هجمات 11 سبتمبر 2001، انتقلت السياسة الأميركية بخصوص تقاسم معلومات الأمن القومي من "الحاجة إلى العلم بالشيء" نحو "الحاجة إلى التقاسم"؛ حيث جادل المؤيدون بأنه لو جرى تقاسم المعلومات المتفرقة حول ذلك التهديد بشكل أفضل، لأمكن رصد الهجمات وإحباطها. غير أنه من الواضح الآن أن التقاسم غير المتحكم فيه بشكل كاف يؤدي إلى تسرب المعلومات. لكن كيف يمكن تحقيق توازن صحيح بين تقاسم المعلومات وضمان الأمن؟ أولا، ينبغي على أجهزة الأمن القومي أن تعود إلى العمل بالمبدأ الأمني الذي أثبت الزمن نجاعته والمتمثل في "الحاجة إلى العلم بالشيء". ففي بغداد، لم تكن لدى مانينج على ما يبدو إمكانية الاطلاع على التقارير الخاضعة لعمليات التحكم الخاصة بالمعلومات الدبلوماسية الأكثر حساسية، EXDIS لـ"التوزيع الحصري"، أو NODIS لـ"حظر التوزيع". وفي هذا الإطار يمكن القول إن الأمن نجح وتحقق. غير أن عمليات تحكم أكثر صرامة ينبغي أن تطبق أيضاً على من يملكون إمكانية الوصول إلى المعلومات الحساسة. فالبرقية الصريحة التي بعثت بها السفارة الأميركية في روما إلى واشنطن من أجل المساعدة على إعداد الزعماء الأميركيين للالتقاء ببرلسكوني، مثلاً، لم يكن ينبغي أن تذهب إلى الجيش الأميركي في بغداد. والواقع أن "الفلترات"، الإلكترونية واليدوية، تستطيع الحيلولة دون ذهاب المعلومات في هذا المسلك الخاطئ. وإضافة إلى تحسين عمليات التحكم في المعلومات وإمكانية الاطلاع عليها، هناك درس ثان ينبغي تعلمه من تسريبات ويكيليكس: إن الأشخاص الذين ينظرون إلى الدبلوماسيين الأميركيين على أنهم أقل أهمية -بالنظر إلى وسائل الاتصال الحديثة وتدفق المعلومات- مخطئون، حيث تُظهر التسريباتُ القيمةَ الفريدة للتقارير والتحليلات التي تُعدها السفارات، وللانخراط الشخصي الدائم مع الزعماء الأجانب في بيئاتهم. فالسفير الأميركي في السعودية مثلاً لديه قدرة أكبر على إجراء حوارات متعددة وصريحة مع المسؤولين هناك، مما لا يتوفر للزعماء في واشنطن والذين يقومون بزيارات أو يتحدثون عبر الهاتف بين الحين والآخر. ثم إن هناك درساً ثالثاً يكمن في حقيقة أنه إذا كان الكشف الجزئي عن التقارير الدبلوماسية يقدم لنا منظوراً جديداً، فإنه يمكن أيضاً أن يكون مضللاً. فمثلاً قد يوحي كشف ويكيليكس عن بعض التقارير الدبلوماسية من تبليسي خلال الحرب الروسية الجورجية في أغسطس 2008 بأن السفارة الأميركية كانت مستعدة لقبول الادعاءات الجورجية بأن روسيا هي من بدأ الحرب. والواقع أن أكثر المعلومات حساسية خلال الأزمات الكبيرة التي تعرف تطورات متسارعة، تُرسَل في الغالب عبر البريد الإلكتروني الآمن والمكالمات الهاتفية الآمنة والرسائل المجزأة، كما بين السفير الأميركي وزعماء واشنطن. وويكيليكس لا يتوفر على إمكانية الوصول إلى هذه المعلومات المؤمَّنة أكثر، ولا يقدم سياقاً أوسع. وعلى سبيل المثال، فقد انخرطت روسيا قبل الأعمال الحربية في عدد من الاستفزازات، وبعد فترة قصيرة على ذلك تدخل الروس. ومثال آخر على التسريبات المفتقرة إلى سياق يأتي من طلب وزارة الخارجية إلى دبلوماسييها في الخارج جمع معلومات شخصية حول شخصيات أجنبية مهمة تشمل بطاقات الائتمان وغيرها، وهو ما رأى فيه بعض المراقبين تجاوزاً للخط الفاصل بين الدبلوماسية والجاسوسية. والحال أن وكالات متعددة في واشنطن ترسل إلى المناصب الخارجية قوائم طويلة تطلب معلومات. غير أنه مثلما تُظهر تسريبات ويكيليكس، فإن السفارات تركز تقاريرها على الأولويات الرئيسية، وتتجاهل إلى حد كبير الطلبات المتنوعة والأقل أهمية. ويذكر هنا أن وزيرة الخارجية أصدرت الأسبوع الماضي تقريراً جديداً يَعد بإصلاح يشمل متطلبات إعداد التقارير. والواقع أن ويكيليكس أعطانا أكثر من مجرد عناوين صحفية دسمة، حيث ألقى الضوء على دروس مفيدة لواشنطن والجمهور العالمي المتابع، ومن ذلك ضرورة أن تعمل واشنطن، في عصر المعلومات هذا، على تقليص خطر التسريبات والتجسس في المستقبل عبر استئناف العمل بالمبدأ الأمني "الحاجة إلى العلم بالشيء"، على أن يُطبَّق بشكل ذكي بحيث تستمر المعلومات حول التحذيرات والتهديدات في الذهاب إلى المسؤولين الذين يحتاجونها؛ كما يجب مراجعة القواعد والمعايير الأمنية وتعزيزها. أما بخصوص دروس الجمهور، فهناك ضرورة التعامل مع الوثائق المسربة بحذر كبير عندما تكون بدون سياق. ويليام كورتني سفير أميركي سابق إلى كازاخستان وجورجيا كينيث يالوفيتش مدير مركز ديكي للتفاهم لدولي بكلية دارتموث، وسفير أميركي سابق إلى بيلاروسيا وجورجيا ينشر بترتيب خاص مع خدمة "كريستيان ساينس مونيتور"