في الفصل الأخير من "المشروع النهضوي العربي" يستعرض النص "آليات تحقيق المشروع" موجهاً النقاش تحديداً حول عنوانين أساسيين هما: "القوى الاجتماعية والسياسية والوسائل النضالية" و"نحو تجسيد المشروع". ابتداءً يؤكد النص على فكرة أولية مهمة من ناحية نظرية وعملية هي التحذير من طوباوية النظر للمشروع وكأنه "كل لا ينتظر سوى التحقق دفعة واحدة، بدلًا من النظر إليه بما هو سلسلة من المسارات المختلفة والمتفاوتة، وسلسلة من التراكمات المحكومة بقانون التطور". وهذا التحذير الدقيق أقرب إلى وثوق "براديم" المقاربات السوسيولوجية التي تعتقد بالتطور التدريجي الوئيد منه إلى "براديم" التغيير الأيديولوجي الثوري الذي يخرج القارئ بأن النص النهضوي يتبنى جوهره وخطوطه العريضة، حتى وإن قصد غير ذلك. ولكن أيّاً ما كان العنوان الذي يندرج تحته ذلك التحذير فهو مدخل يستحق التنوية والإشادة. وبعد ذلك ينخرط النص في توصيف تصوره للقوى الاجتماعية والسياسية "صاحبة المصلحة في المشروع" ويقول إن تلك القوى تشكل قاعدة عريضة، منبهاً إلى أنها في "حالة حراك شديد" وهذا يقود إلى أن أي افتراض تعييني لتلك القوى مثل "قوى الشعب العاملة، الأمة، النخبة، الكتلة التاريخية... الخ، قد يصطدم بوقائع اجتماعية معاكسة، أو قد يُسقط من الحسبان قوى جديدة أو صاعدة...". وهذا التنوية يستحق التوقف عنده أيضاً وإبرازه كذلك نظراً لواقعيته ومنطلقة السوسيولوجي غير المؤدلج. وبعد المدخلين الحذرين المذكورين أعلاه يعود النص ليتورط في الاندفاعات الإيديولوجية. وأول تلك الاندفاعات هو تصنيف القوى التي لا ترتضي العمل بمبادئ المشروع المُرتجى على أنها تابعة للقوى الأجنبية، ومُفترضاً أن القوى المؤيدة له هي الأكثرية، مُسطراً ما يلي: "... فمن المؤكد وقوف فئات أخرى في المجتمع ضده (أي المشروع النهضوي). فئات قد أدت بها الظروف المحلية والدولية، والأثرة السلبية، إلى ربط نفسها ارتباطاً نفعيّاً بالأجنبي، وخلق المتعاونين المحليين الذين يُيسرون تنفيذ مآرب هذا الأجنبي، ويجنون من ذلك المنافع ضد إرادة معظم فئات الأمة ومصالحها. ومع مضي مشروع الوحدة العربية قدماً في حيز التنفيذ وبروز محاسنه وجني ثماره يزداد المقتنعون بجدواه ويتحولون إلى مُنادين به ومنضوين تحت لواء تنفيذه، ويلقى السائرون في ركب الأجنبي مصير سابقيهم". ومكمن الانزلاقة الكبيرة في هذا الإعلان ذي النبرة الخطابية العالية هو اعتباره كل من يعارض المشروع النهضوي العربي والوحدة العربية عميلاً للأجنبي على طول الخط. وبهذا فإنه، أي النص، ينقض أية عقلانية سوسيولوجية تم استخدامها، ولو بتردد ونسبية هنا وهناك، حيث يفترض أن الوحدة العربية مُعطى طبيعي وليست سيرورة تضبطها التحولات والمصالح المشتركة للشعوب العربية والشرائح والفئات المختلفة. وبمقدار ما تستجيب تلك الوحدة المفترضة لشبكة المصالح المعقدة فإنها قد تتحقق وبقدر ما تظل شعاراً لا علاقة له بتلك المصالح فإنها تتجمد على رفوف الايديولوجيا كما تجمد غيرها من الأفكار. وهكذا فإن النص ينفي عمليّاً وجود أي مُعارض للمشروع النهضوي العربي أو الوحدة العربية يسند معارضته تلك على أسس منطقية أو مصلحية محلية، ويحشر أية معارضة له في خانة العمالة للأجنبي. لكن ماذا لو، على سبيل المثال، رفضت الشرائح الشعبية الأوسع في أي بلد من البلدان، وليس فقط نخبه الحاكمة، تلك الوحدة المُفترضة لأنها تذيب هذا البلد أو ذاك في بحر واسع من العروبة السياسية وتهدد المصالح والإنجازات التي بناها أو أنجزها؟ أين سيقع تصنيف هذا الشعب أو الشعوب من وجهة نظر المشروع النهضوي العربي؟ يعيد النص التوكيد، في سياق تحليله للقوى السياسية للمشروع النهضوي، على أن هذه القوى ليست "معطاة سلفاً" وإنما هي قوى قيد التكوين، ويرى أنه "يجب توقع أفقين اثنين على الأقل: الأفق الأول هو توقع ما يمكن أن تولده التحولات المعتملة الآن داخل التيارات الأربعة الرئيسة المذكورة (القومية واليسارية والإسلامية والليبرالية) من تركيبات متجددة، بل متغيرة. أما الأفق الثاني، فهو توقع نشوء حركات جديدة، علماً بأن معظمها نشأ أصلًا، ومنه تلك الحركات المشمولة بتسمية الحركات الاجتماعية الجديدة أو حركات المجتمع المدني". وفي هذا التوكيد يعود النص مرة أخرى، ومن منظور عام، إلى المسار السوسيولوجي مبرزاً درجة عالية من التوتر في داخل النص بين المقاربة الاجتماعية الحذرة والمقاربة الإيديولوجية المنفلتة من قيد التحليل الاجتماعي. ولكن هذا التوصيف الاستشرافي للتحولات المتوقعة في طبيعة القوى السياسية المستقبلية في المشهد العربي لم يبرز في نص "المشروع النهضوي" بشكل ثابت وراسخ. بل إن النص استند كثيراً إلى خريطة القوى الموجودة حاليّاً وبنى عليها رؤيته المستقبلية. ففي أكثر من موضع في النص العام للمشروع هناك ترسيم للخطوط العريضة له استناداً إلى تحالف الحد الأدنى المشترك بين القوى القومية والإسلامية واليسارية، وتقديم تنازلات وإغراءات "قومية" لهذه القوى كي تقتنع وتلتحق بالمشروع وتسلم راية القيادة للطرف القومي فيه. وبكلمة أخرى فإن المجرى العام التنظيري لـ"المشروع النهضوي العربي" يشير إلى اعتباره القوى السياسية الحالية "معطاة سلفاً"، فيما يصل في نهايته وفصله الأخير حين يُناقش آليات التنفيذ إلى ضرورة عدم اعتبار تلك القوى "معطاة سلفاً"، أو أنها في حالة سكون أو ثبات يُدخلها المستقبل كما هي، بل هناك قوى أخرى متحركة صاعدة وهكذا. ينتقل النص بعد ذلك لينقض فكرة "الطليعة" وهي إحدى المرتكزات الأساسية للفكر والتجربة القومية (واليسارية) الحزبية التي نظرت إلى الحزب على أنه نخبة قيادية وطلائعية تعمل على تنوير وقيادة المجتمع باتجاه الإيديولوجيا والبرنامج السياسي للحزب المعني. وقد انتُقدت فكرة "الطليعة" بسبب استعلائيتها على الشعب ونخبويتها، وهنا يحاول النص النهضوي إعادة بناء الفكرة القومية في ثوبها التحشيدي الجديد من دون الوقوع في شرك الطلائعية مرة أخرى. وسيراً على ذلك يدعو إلى تكوين أحزاب شعبية بدل الأحزاب الطليعية، تكون صلتها بالناس قوية. ولكن النص ووسط بهجة نقد الأحزاب الطليعية يندفع إلى زاوية مفاجئة مقرراً ضرورة أن تصبح "المرجعية في العمل الحزبي للناس، لا إلى النص (العقائدي - الإيديولوجي)، وعلى نحو يصبح فيه مبدأ تمثيل الناس والاحتكام إلى الرأي العام -داخل الأحزاب وخارجها- مقياساً لصواب رؤاها وبرامجها". وهذه المقاربة النقدية، التي تستنكر ضمنا ًتجربة الأحزاب القومية في الماضي وتبتعد عنها، مهمة وتستحق الإشادة أيضاً، ولكنها تخلق إشكالا حقيقيّاً مع التوجه العام للمشروع الذي يحدد رؤية معينة، إيديولوجية، ويريد الوصول إليها، ويريد توظيف واستخدام آليات محددة بهدف إنجازها. فما تطرحه الرؤية النقدية لاستخدام الأحزاب كما ترد هنا يسير في اتجاه ليبرالي وسوسيولوجي لا يتفق بالضرورة والبوصلة القومية التي يسطرها ويستهدي بها المشروع النهضوي العربي. وبمعنى آخر إذا تم التسليم بأن مرجعية العمل الحزبي تعود إلى الناس وليس إلى النص العقائدي والأيديولوجي، وأن التوجيه العام للسياسات ينبع من الرأي العام وليس من النخب، وكل ذلك مقاربات سوسيولوجية وديمقراطية ليبرالية لا خلاف عليها، فكيف سيكون موقف وموقع دعاة المشروع فيما لو كانت توجهات "مرجعية الناس" و"الرأي العام" تطالب بما لا يطالب به المشروع النهضوي؟