كانت مدينة القدس وماتزال درة المدن العربية، فهي مميزة في كل المجالات الدينية والتاريخية والاستراتيجية، لذلك لا غرابة إن ظل المشرق العربي مضطرباً وغير مستقر طالما بقيت القدس أسيرة للاحتلال الإسرائيلي، وسياساته الرامية لاستئصال سكانها العرب وتهويد بنياتها وصورتها العربية الماثلة منذ آلاف السنين. وفي الكتاب الذي نعرضه هنا، وعنوانه "القدس... دراسات في التاريخ والسياسة"، نطالع أوراق الندوة العلمية التي نظمها "مركز الإمارات للدراسات والبحوث الاستراتيجية" حول مستقبل المدينة الأسيرة، احتفالاً بالقدس عاصمة للثقافة العربية لعام 2009. وقد تمحورت أوراق الندوة حول البعدين التاريخي والسياسي للمدينة، وذلك اعتباراً لعراقتها التي تحاول الدوائر الصهيونية أن تختلق لها تاريخاً يبرر سياسات التهويد والأسرلة الحالية فيها، واعتباراً للواقع الذي تعيشه القدس من احتلال وتهجير منذ نكبة 1948 ثم نكسة 1967. تاريخ القدس مفتاح مهم لفهم واقعها المعاصر وما تعانيه من تمزق، كما يوضح محمد غوشه في ورقته حول "القدس عبر التاريخ ومكانتها في الأديان السماوية"، فقد بُنيت في نهاية الألفية الرابعة قبل الميلاد على أيدي اليبوسيين، وهم أحفاد الكنعانيين الذين هاجروا من جزيرة العرب واستقروا في فلسطين، وعرفت لدى إنشائها باسم "يبوس"، ثم سميت فيما بعد "أورسالم" نسبة إلى ملك اليوبوسيين. وتعرضت للغزو من القبائل اليهودية القادمة من مصر في القرن الحادي عشر قبل الميلاد، لكن بعد قرن من الزمان أتى الغزو الآشوري ثم البابلي فأنهى الوجود اليهودي فيها من خلال السبي والتدمير. وتعاقبت على "أورسالم" عدة احتلالات، منها احتلال كورش الفارسي الذي أعاد اليهود، والإسكندر المقدوني وخلفاؤه... إلى أن جاء الاحتلال الروماني الذي دمرها في القرنين الأول والثاني للميلاد وأنهى التواجد اليهودي فيها. وبقيت كذلك حتى الفتح الإسلامي لها في العام الـ15 هـ عندما وضع عمر بن الخطاب قواعد التعايش السلمي بين سكانها من الأديان والمذاهب المختلفة. هذا وقد كانت المدينة محل تقديس عند المسلمين قبل فتحها؛ إذ أُسري بالرسول صلى الله عليه وسلم إليها من مكة المكرمة، ثم عُرج به منها إلى السموات العلى، كما كانت القبلة الأولى للمسلمين... ما جعلها مدينة مقدسة لديهم، لذلك فقد اهتم بها الخلفاء والأمراء والسلاطين، وفي مقدمتهم الخلفاء الأمويون الذين بنوا المسجد الأقصى ومسجد قبة الصخرة. وعقب غزو الجيوش الصليبية التي احتلت القدس عام 492 هـ، استردها صلاح الدين الأيوبي، فأعاد تجديدها. وبعد العهد الأيوبي، جاء العهد المملوكي، ثم العهد العثماني الذي استمر حتى عام 1917 حيث احتلتها بريطانيا بعد هزيمة الدولة العثمانية. ومن خلال سرد مفصل للأحداث والحقب التي توالت على القدس، يبين الباحث اهتمام الحكام والناس العاديين بهذه المدينة المقدسة، وما جرى فيها من أحداث وما أضيف إليها من تجديدات وبنى عمرانية وتحصينات. وتحت عنوان "الديمغرافيا والصراع الجيوسياسي في القدس"، يوضح خليل التفكجي أن ضعف الدولة العثمانية مهد لدخول اليهود إلى المدينة والتجمع والتكاثر فيها، حتى جاءت بريطانيا بسياساتها التي أفضت في عام 1948 إلى إعلان الدولة الإسرائيلية في فلسطين وطرد أهلها منها في نكبة كان من نتائجها احتلال القسم الأكبر من القدس. ثم تم احتلال الجزء المتبقي (القدس القديمة) عام 1967. ومنذ قيامها مارست إسرائيل سياسة ممنهجة لتفريغ القدس من سكانها العرب وإحلال اليهود مكانهم، ضمن خطة كبرى لتهويد المدينة وجعلها العاصمة الموحدة لليهود. وفي هذا الخصوص يلاحظ الباحث أن سلطات الاحتلال خلقت واقعاً سياسياً وديمغرافياً جديداً في المدينة؛ فالديمغرافية الإسرائيلية التي نمت على حساب الجغرافية الفلسطينية، عبر مصادرة الأراضي، وبناء المستوطنات، وسياسة هدم البيوت... أوجدت خللاً ديمغرافياً واضحاً، هو ما تعهدت ورقة الضمانات الأميركية لشارون بأخذه في الحسبان خلال أي تسوية سياسية. وفي الدراسة الثالثة والأخيرة، حول "مستقبل القدس وعملية التسوية السلمية"، يتناول الدكتور أحمد جميل عزم تغيرات المواقف الإسرائيلية واليهودية (الرسمية والشعبية والحزبية)، والقدس في المفاوضات الفلسطينية الإسرائيلية، والموقف الفلسطيني، وأخيراً معالم الحل السياسي حول القدس. ويخلص إلى أن المواقف من القدس كانت دائماً متغيرة، فبينما قبل الفلسطينيون رسمياً بخيار تقسيم القدس، فإن قوى إسرائيلية تخلت عن طروحاتها حول القدس كـ"عاصمة أبدية موحدة لإسرائيل"، وهو شعار لم يظهر إلا عقب حرب عام 1967. أما فيما يخص المستقبل، فيرى الباحث أن من شأن استراتيجية صمود فلسطينية وعربية فاعلة، توازيها عملية سياسية تدار بذكاء، أن تزيد فرص العودة إلى ما كان عليه الحال في عام 1967، مع بعض التغييرات الجزئية المحتملة. محمد ولد المنى الكتاب: القدس... دراسات في التاريخ والسياسة المؤلفون: جماعة الناشر: مركز الإمارات للدراسات والبحوث الاستراتيجية تاريخ النشر: 2010