وفقاً لما يكشف عنه هذا الكتاب الذي نعرضه هنا، "الاحتيال المالي"، لمؤلفه "مات تيبي"، فإن الأزمة المالية الاقتصادية التي ضربت اقتصادات العالم في عام 2008، لم تكن خاتمة لعاصفة مالية مرت للتو، بقدر ما هي مقدمة لأزمات مالية لاحقة. ومن رأيه أيضاً أن صعود أسواق وول ستريت وغيرها من المؤسسات المالية والمصارف الأميركية، ثم انهيارها فإنقاذها من أموال الخزانة الفيدرالية ودولارات دافعي الضرائب، لم تكن سوى سلسلة من الأحداث الدرامية المتتالية التي نسجتها شبكة من النصابين المحترفين الذين يمسكون بزمام السلطة السياسية الاقتصادية في أميركا. وحسب ما توصل إليه الكاتب في دراسته هذه، فقد استمر تزايد نفوذ "طبقة المحتالين" -التي تتألف من كبار اللاعبين في المؤسسات المالية، وكذلك الساسة الذين يمررون الصفقات المالية التي يهندسها هؤلاء اللاعبون- منذ عدة عقود مضت. وقد تبع صعود هذه الطبقة ابتكار آليات ونظم مالية في غاية التعقيد والقدرة على المناورة السياسية. ولم تكن الأزمة المالية الأخيرة التي بدأ انتشارها عالمياً من أميركا، سوى مظهر واحد فحسب للوسائل التي تمكنت بها هذه الطبقة من اختطاف الحياة السياسية والاقتصادية الأميركية كلها. وبذلك يحفر المؤلف عميقاً تحت سطور الأخبار والتحليلات السطحية للأزمة المالية الأخيرة، ليكشف عن جذور وتداعيات ممارسة ما يصفه بطبقة المحتالين. وفي السياق نفسه، يرد المؤلف نشأة هذه الطبقة ثم صعودها فيما بعد، إلى المبادئ العامة التي أرستها المفكرة المحافظة أيان راند ومجموعة تلامذتها وحوارييها من أمثال آلان جرينسبان -الرئيس السابق للبنك الاحتياطي الفيدرالي- وغيره. كما يكشف عن المناقشات السرية التي دارت وراء الأبواب المغلقة وحددت مصير الرابحين والخاسرين في مهرجان إنقاذ الحكومة للمؤسسات المالية المنهارة والمسببة للأزمة. ويكشف المؤلف عن الفقاعات الاقتصادية الخفية التي ساهمت في تحويل مليارات الدولارات إلى أسواق وول ستريت -من بينها فقاعة الرهن العقاري الأخيرة، وفقاعة أسواق الأسهم والأوراق المالية- بينما ساهمت هذه الفقاعات نفسها في التسبب بنقص حاد في المواد الغذائية في مختلف أنحاء العالم. ومن بين خيوط التحليلات التفصيلية، ينفذ المؤلف إلى مرماه الرئيسي المتمثل في الكشف عن الكيفية والآليات التي تمكن بها اللاعبون الماليون من فرض نفوذهم على المؤسسة السياسية الأميركية. ويستعين الكاتب في دعم فرضيته الأساسية هذه، بتفنيد عدد من الإجراءات والتشريعات، بما فيها نجاح البنوك الاستثمارية الأميركية في طرح البنية التحتية الأميركية كلها للمزاد العام. ضمن ذلك يكشف المؤلف عن تفاصيل ومتلازمات الصراع الداخلي الدائر بين مختلف الأطراف المالية والسياسية حول تشريع إصلاح الرعاية الصحية الذي تبنته إدارة أوباما الحالية، وغيره من التشريعات الإصلاحية المشابهة. ويستنتج أن الإصلاحيين الحقيقيين خسروا هذه المعركة لصالح القوى المالية السياسية المعادية لأي إصلاح من الأساس. من هنا يخلص الكاتب إلى نجاح المحتالين في استقطاب الدعم الشعبي الواسع لأجندة وول ستريت وإغواء العامة بأفكار ومفاهيم راند ومنظري الأيديولوجية الليبرالية المزيفة. ومن رأيه أن هذه الأساليب ظلت موجودة دائماً، غير أنها بلغت ذروتها خلال السنوات العشر الأخيرة. وضمن هذا التأثير الذي يمارسه المحتالون على الجمهور العام، ينتقد المؤلف مظاهر اللاوعي السياسي الاقتصادي التي سادت المناسبات والأنشطة التي نظمها ناشطو وقادة حركة "حفل الشاي" قبيل الانتخابات النصفية الأخيرة التي جرت في نوفمبر الماضي. فهو يرى أن المشاركين في هذه الأنشطة غير واعين بأنهم وقعوا في فخ النصابين الذين سرقوا منهم الدولارات التي تقتطع من جيوبهم لضخ مزيد من الأموال المنهوبة في خزانات وول ستريت. ولم يكن ممكناً إقناع هذه الأعداد الكبيرة من الناشطين والمتحمسين في الأنشطة الجمهورية المحافظة هذه، لولا إشاعة الوعي التبسيطي الزائف بينهم بأساليب وحيل تراعي ميل جمهور الشارع العام إلى تصديق الأسهل والقابل للفهم مثل: إن فرض قيود ونظم على عمل المؤسسات المالية، يهدد قيم حرية النظام الرأسمالي، ويمهد الطريق لفرض نظام اشتراكي على أميركا على غرار النظام السوفييتي السابق... وغيرها من مفاهيم مسطحة تبدو أسهل لفهم رجل الشارع العام، مقارنة باستحالة فهم التعقيدات المالية التي ابتكرها المخططون الماليون لطبقة المحتالين. وفي الاتجاه نفسه وبذات المنطق التسطيحي، يتم تصعيد مقاومة تشريع إصلاح نظام الرعاية الصحية، بدعوى أنه يصادر حق المواطن الأميركي وحريته المطلقة في اختيار ما يشاء لرعايته الصحية، وأنه يفرض تدخل الحكومة في أمر يخص حرية المواطن وحقوقه الأساسية. ويكاد يجزم المؤلف بأن العامين المقبلين من ولاية أوباما الحالية لن يشهدا أي تقدم تشريعي، بل سوف يبذل خصومه كل ما بوسعهم لنقض التشريعات الإصلاحية التي تمت المصادقة عليها سلفاً من قبل الكونجرس. وكما سبق القول ففي كل هذه الممارسات ما يفتح الباب أمام أزمات اقتصادية وسياسية بدأت رياحها تهب من الآن. عبدالجبار عبدالله الكتاب: الاحتيال المالي المؤلف: مات تيبي الناشر: مجموعة "راندوم هاوس" للطباعة والنشر تاريخ النشر: 2010