إذا كان المؤرخون يرجعون بداية القرن العشرين إلى الحرب العالمية الأولى، وتحديداً إلى حادثة اغتيال الدوق فرديناند النمساوي في أغسطس1914 والتي أشعلت فتيل سلسلة من الحروب بين الدول انتهت بمقتل عشرات الملايين، فإنهم لا شك يعتبرون الانطلاقة الفعلية للقرن الحالي مع هجمات 11 سبتمبر التي دشنت نوعاً جديداً من الحروب تخوضها الدولة الأعظم في العالم، الولايات المتحدة، ضد أعمال إرهابية تنفذها جماعات، وهي الحرب التي يشير أغلب المراقبين إلى أنها ستدوم طويلاً. هذا ما يسعى إلى إثباته الكتاب الذي نعرضه هنا للكاتب الأميركي "ديكستر فيلكينز" بعنوان "الحرب المستمرة... مشاهدات من الحرب على الإرهاب". فقد كانت الهجمات التي هزت أميركا صباح 11 سبتمبر 2001 ونفذها تسعة عشر رجلاً مسلحين فقط بأدوات حادة مستهدفين رموز القوة الاقتصادية والعسكرية الأميركية، بمثابة إعلان حرب لن تتردد أميركا في دخولها بعدما بوأت نفسها على رأس القوى المسؤولة عن محاربة الإرهاب في العالم، لاسيما وأن ضربة "القاعدة" لم تكن مجرد اعتداء عادي، بل كانت صدمة حقيقة للقوة العظمى في العالم تلقتها على يد منظمة مارقة تناصبها العداء. فبعد اثني عشر يوماً على الهجمات وجه بوش خطاباً مهماً إلى الكونجرس حدد فيه استراتيجية أميركا المقبلة مطلقاً عليها اسم "الحرب على الإرهاب" والتي أقر البنتاجون بأنها ستكون "حرباً طويلة"؛ غير أن خطاب بوش لم يقتصر على لحظة الإهانة التي استشعرتها الولايات المتحدة بعد الهجمات لأنها تجاوزت الرد الفوري إلى بلورة استراتيجية ستقود سياستها الأمنية على مدى عقد كامل من أهم إفرازاته محاولة صياغة الشرق الأوسط بما يوافق مصالح أميركا وأمنها القومي، فقد أوضح بوش ملامح الحرب القادمة قائلاً "إن حربنا تبدأ مع القاعدة لكنها لا تنتهي عند ذلك الحد، إنها ستنتهي فقط عندما يهزم كل إرهابي يعمل على الصعيد العالمي". وبهذا المعنى لن تقتصر الحرب على المسؤولين عن هجمات 11 سبتمبر وإنما ستلاحق كل الجماعات التي قد تهدد الأمن الأميركي، والأكثر من ذلك أنها قد تستمر إلى الأبد، بحيث يتعين على "الأميركيين ألا يتوقعوا معركة واحدة بل حملة ممتدة". والمشكلة التي يواجهها السياسي الأميركي دائماً عندما يتعلق الأمر بتبرير الحروب الخارجية هو الرأي العام الداخلي، فالحرب ليست فقط موجهة لكسب المعارك القتالية، وإنما أيضاً لكسب العقول والقلوب باستخدام وسائل الدعاية المختلفة وتوظيف وسائل الإعلام أحياناً لرسم صورة إيجابية عن أهداف الحملة الأميركية في العالم، ذلك أن تسويغ استمرار الحرب يستلزم بالضرورة القدرة على الدعاية الناجحة وإبقاء الرأي العام يقظاً. وفي هذا السياق يبدو أن المسؤولين الأميركيين، وبخاصة في وزارة الدفاع، استفادوا من دروس حرب فيتنام التي لعب فيها المراسلون الصحفيون دوراً مهماً في تحفيز الوعي الجماعي للأميركيين من خلال تغطياتهم الجريئة وتشكيكهم في جدوى الحرب الأميركية، لذا قام الجيش باصطحاب صحفيين وإدماجهم ضمن قواته في محاولة للسيطرة على المعلومة وإخضاع عمل الصحفيين للرقابة. لكن التطور الإعلامي الذي شهدته السنوات الأولى من القرن الحادي والعشرين والتنوع الكبير في المنابر الإعلامية جعل من الصعب على المسؤولين الأميركيين احتكار تدفق المعلومات، وهو ما يؤكده الكتاب من خلال تجربة قناة "الجزيرة" التي نشرت شبكة من المراسلين في جميع البؤر الساخنة التي أشعلتها أميركا، وكانت من أوائل من دخل أفغانستان وغطت الحرب على نحو أزعج الإدارة الأميركية، الأمر الذي قلل من مصداقية الصحافة المصاحبة للجيش الأميركي ودفع صحفيين مستقلين إلى العمل خارج القواعد الرسمية، وهو ما نجح فيه الكاتب إلى حد بعيد، فقد بدأت رحلة الكاتب عبر المسالك الوعرة للحرب على الإرهاب في أفغانستان عندما كانت "طالبان" في سدة الحكم، لينتقل بعد ذلك إلى الحرب في العراق من خلاله سرده لوقائع ومشاهدات رآها شخصياً، بالاعتماد على أسلوب سردي مباشر لنقل تفاصيل المعارك واللحظات الصعبة التي عاشها إلى جانب الجنود الأميركيين. فهو مثلاً يصور مشاهد هجوم قوات المشاة الأميركية على الفلوجة وسقوط بعض الجنود والتناقض الذي ظهر بين تصريحات الرسميين حول القضاء على المتمردين وبين التقارير الإعلامية التي أكدت استمرار المقاومة العراقية. ويواصل الكاتب وصفه للمدينة بعد تفاقم أعمال العنف قائلاً: "لم يعد هناك وجود للقانون، لا محاكم، ولا شيء على الإطلاق، لقد أصبحوا اليوم يختطفون الأطفال، يقتلونهم ثم يلقون بهم على قارعة الطريق". ويشرح أيضاً كيف تحولت الحرب في العراق من صراع في متناول التغطية الصحفية خلال 2003 إلى أخطر حرب على الإطلاق يمكن للصحفيين تغطيتها بعدما سقط أكثر من 130 منهم خلال تأديتهم لعملهم. زهير الكساب الكتاب: الحرب المستمرة... مشاهدات من الحرب على الإرهاب المؤلف: ديكستر فيلكينز الناشر: ألفريد نوف تاريخ النشر: 2010