هل أميركا بلد "استثنائي"؟ الأكيد أن بلدان العالم جميعاً استثنائية لأنها تختلف عن بعضها البعض، لكن هل تختلف أميركا عنها جميعاً وتتفرد في تباينها؟ هل تملك أميركا أهدافاً خاصة بها في العالم ومصيراً مختلفاً عن الباقي؟ هذه الأسئلة كلها تشكل العناصر الأساسية لمعركة محتدمة يقودها بعض رموز الحزب "الجمهوري" في محاولة للإطاحة بأوباما في رئاسيات 2012، فقد اعتبرت كل من سارة بالين وميت رومني ونيوت جينجريتش ومايك هوكابي وباقي المتطلعين "الجمهوريين" لمنصب الرئاسة أن أوباما ليس مناصراً بما يكفي لفكرة الاستثناء الأميركي، فالولايات المتحدة استثنائية بجميع المقاييس كما يقولون، ماعدا الرئيس نفسه الذي يرى غير ذلك حسب رأيهم، هذا الاعتقاد عبر عنه "مايك هوكابي" صراحة باتهامه أوباما أن "نظرته للعالم تختلف تماماً عن أي رئيس أميركي سابق سواء "ديمقراطي" أو "جمهوري"، فإنكار الاستثناء الأميركي هو في حقيقة الأمر إنكار لروح هذه الأمة وقلبها". ويبقى أن هذه التهمة التي يلقي بها "الجمهوريون" في وجه أوباما تضعه في موقف صعب، لا سيما في ظل ما تشير إليه استطلاعات الرأي من أن 58 في المئة من الأميركيين يتفقون مع مقولة الاستثناء الأميركي وأن "الله منح أميركا دوراً خاصاً لتلعبه في التاريخ البشري"، وهو ما يقودنا إلى الخلاصة التالية أن الأميركيين سواء كنا استثنائيين فعلاً أم لا، يؤمنون بالفكرة، وأن استمرار السياسيين في التشكيك بها يرقى إلى الانتحار السياسي، لذا يتم التركيز عليها كتهمة سهلة يقذف بها في وجه أوباما لإحراجه أمام الرأي العام الأميركي. وفي المقابل وللتصدي للتهمة يتعين على أوباما استدعاء ملامح الاستثناء الأميركي في التاريخ الطويل لدى "اليسار" في الولايات المتحدة، فالمناضلون الذين دافعوا في التاريخ الأميركي على قيم العدالة والمساواة ركزوا في دعواتهم على الخصوصية الأميركية كبلد للحريات، وخلافاً للمحافظين في وقتنا الراهن لم يكتفوا بالإشادة بالدولة وما حققته الأمة من إنجازات بل نبهوا إلى الأوقات واللحظات الصعبة التي بدا فيها أن أميركا تخلت عن مبادئها وابتعدت عن استثنائيتها، ومن هذا المنطلق كانت المبادئ والقيم التي أسست الاستثناء الأميركي منبراً للإشارة إلى المثالب الأميركية بدلاً من التغني فقط بمناقبها، وفي هذا السياق يمكن الإشارة إلى حركة إلغاء العبودية التي ظهرت في أميركا خلال القرن التاسع عشر، والتي كانت على الدوام تستدعي المهمة الإلهية لأميركا والوثائق المؤسسة للأمة الأميركية لنقد العبودية والدعوة للقطع معها، ففي افتتاحية مجلته استشهد المحرر الكبير "ليود جاريسون" وثيقة إعلان الاستقلال مشيراً إلى "الاعتراف بالحقيقة الظاهرة والمتمثلة في أن جميع الناس خُلقوا سواسية، وأن الخالق أسبغ عليهم حقوقاً ثابتة لا تقبل التصرف من بينها الحق في الحياة والحرية والبحث عن السعادة". مضيفاً أنه سيسعى بكل جهده لضمان تحرير العبيد، مؤكداً ذلك بقوله "لن أتردد ولن أبحث عن المسوغات كما أني لن أتراجع قيد أنملة"، وبالمثل وبنفس هذه الروح المستمدة من الإيمان العميق بالاستثناء الأميركي والمهمة الإلهية يتابع محرر آخر وسم التاريخ الأميركي، وهو "فريدريك دوجلاس" الذي استشهد هو الآخر في خطابه الشهير عام 1852 بوثيقة الاستقلال قائلاً: "إن وثيقة الاستقلال هي الضمانة الأكيدة لخصوصيتنا الأميركية ولاستمرار الوفاء لقدرنا، فالمبادئ التي تنص عليها الوثائق هي شاملة ويتعين الاقتداء بها والتمسك بها في جميع الأوقات والأماكن ضد كل الخصوم مهما كلفنا ذلك من ثمن". ويضيف "دوجلاس"، وهو يدافع عن عتق العبيد وتحريرهم من نظام الرق الذي لطخ التاريخ الأميركي "لا يوجد أي ذكر في الدستور لعبارة العبيد، أو الحاجة إلى استمرار العلاقة الحالية بيننا وبين مواطنينا من أصول أفريقية، ولو كان القصد من الدستور الحفاظ على تلك العلاقة القائمة على العبودية، فلماذا لم يأت على ذكر كلمة عبودية، أو عبيد أو ما شابه ذلك من ألفاظ تكرس ممارسة الرق؟"؛ وحتى بعد انتهاء الحرب الأهلية وانقضاء عصر العبودية ودخول الأمة في مرحلة التصنيع المتسارع استمر النشطاء في النقابات والمدافعين عن حقوق العمال في استدعاء الأصول الاستثنائية والروحانية للأمة الأميركية، بل إن الاشتراكيين الأميركيين دأبوا على الاستشهاد بأقوال "توماس جيفرسون"، بدل الإشارة إلى كارل ماركس، ففي برنامج الحزب "العمل الاشتراكي" الأميركي هناك تأكيد واضح على "الحقوق الثابتة لجميع البشر، والتي على رأسها الحياة والحرية والبحث عن السعادة" ويضيف البيان الحزبي أنه "انسجاماً مع المبادئ التي أرساها مؤسسو الأمة نؤمن بأن الهدف الأسمى للحكومة هو ضمان حصول جميع المواطنين على حقوقهم، علماً أن هذه الحقوق لا يمكن لها التجسد أبداً تحت نظام يكرس عدم المساواة"؛ وأخيراً والأكثر أهمية اعتماد زعيم الحقوق المدنية في أميركا القس "مارتن لوثر كينج" على وثيقة إعلان الاستقلال الأميركي للدفع بأجندته التحررية، ففي خطابه الشهير خلال 1963 ناشد أميركا "بالالتزام بالمعنى الحقيقي لعقيدتها"، وهي العقيدة التي حرص كنج على التوضيح بأنها أساس الاختلاف الأميركي من جهة ومستمدة من الله من جهة أخرى، لكن، وهذا ما يجب التركيز عليه، لا يمكن القول إن أميركا تحتكر بمفردها هذه الخصوصية، ذلك أن العقيدة التي تحدث عنها لوثر كينج تشمل البشر جميعاً وهي بالتالي ذات بعد عالمي، فالناس جميعاً خُلقوا سواسية ولهم حقوق ثابتة، وإذا كان لأميركا من خصوصية في هذا المجال فذلك فقط لأنها تزعمت هذه الجهود وليس لأنها تحتكرها، وهذا بالضبط ما يتعين على أوباما التركيز عليه في تعامله مع تهم الجمهوريين حول الاستثناء الأميركي. جوناثان زيمرمان أستاذ التاريخ والتربية بجامعة نيويورك ينشر بترتيب خاص مع خدمة "إم. سي. تي. إنترناشيونال"