تسود أعمال المصارف أجواء من الفوضى بسبب الكم الهائل من الرسوم والاقتطاعات التي يتم تحصيلها، وذلك في محاولة لزيادة إيرادات البنوك التي انخفضت نتيجة لتداعيات الأزمة المالية العالمية وما سببته من تراجع في عائدات وأرباح البنوك، سواء بفقدان جزء من أصولها أو بسبب المخصصات الكبيرة لتجنيب قروضها المتعثرة. ونتيجة لحالة عدم الرضا التي تمخضت عنها هذه الرسوم المبالغ فيها التي لا تعتمد على أسس قانونية أو مهنية، فقد اتجهت الأنظار للمصرف المركزي، باعتباره الجهة المنظمة لعمل البنوك والمؤسسات المالية، إلا أن المصرف المركزي نأى بنفسه معتبراً أن ذلك يدخل في نطاق حرية السوق! علماً بأن هذه الرسوم لا علاقة لها من قريب أو بعيد بمفهوم حرية السوق التي تتمحور حول منع الاحتكار وتوفير الظروف المتكافئة للمنافسة الحرة في نطاق القوانين والأنظمة التي تسير عمل المنظومة الاقتصادية. ويبدو أن هذه الرسوم قد خرجت عن هذا المفهوم، مما يستدعي تدخل الجهة المسؤولة عن الإشراف على عمل البنوك والمؤسسات المالية، فالقسم الخامس في مادته الثانية من قانون المصرف المركزي تنص على أن "للمصرف أن يزود المصارف بالتعليمات أو التوصيات التي يراها محققة لسياساته الائتمانية والنقدية، وله أن يتخذ التدابير وأن يستخدم الوسائل التي من شأنها تأمين سير العمل المصرفي على وجه سليم"، إذ تشير هذه القضية إلى أن هناك خللاً يشوب عمل المصارف التجارية بسبب رسوم الخدمات التي لا تحدها حدود، مما قد يسيء إلى سمعة النظام المصرفي ويقلل من جذب الاستثمارات. وهذه ليست المرة الأولى التي تفسر فيها الأمور بصورة غير صحيحة بحرية الأسواق، فقبل عامين حدثت مضاربات قوية ومضرة على العملة المحلية بسبب شائعات حول فك ارتباطها بالدولار، مما أدى بمكاتب الصيرفة إلى تحقيق أرباح طائلة بسبب شراء الدولار بـ 3.50 درهم وبيعه بأربعة دراهم، في الوقت الذي ثبت المصرف المركزي سعر صرف الدرهم بـ 3.67 درهم، مما تطلب تدخلاً مباشراً من المصرف المركزي لحماية العملة المحلية من المضاربات الضارة، وذلك وفق المادة الخامسة من البند الثاني من قانون المصرف التي تنص على "العمل على دعم النقد وتحقيق ثباته في الداخل والخارج"، إلا أن المصرف المركزي لم يتدخل، مما أشاع نوعاً من الفوضى في الأسواق. ومن غير المعروف متى ستتوقف عملية تصاعد هذه الرسوم أو ابتداع رسوم جديدة وبعضها مثير للضحك، ففي العديد من البلدان تمنح امتيازات كثيرة لمن يبلغ عامه الستين، وذلك تقديراً لعطائه وعمله، بما في ذلك تخفيضات كبيرة في أسعار الخدمات، أما المصارف المحلية، فقد طبقت بدعة فرضت من خلالها رسوماً على حسابات الزبائن الذين تجاوزوا الستين عاماً من العمر. لقد أضرت الأزمة المالية بمعظم البنوك في العالم، مما تتطلب إعادة تقييم أداء هذه البنوك، حيث بادرت بنوك عالمية عديدة بإعادة هيكلة أعمالها وتحملت إداراتها بشجاعة أخطاءها السابقة، في حين لجأت بنوك أخرى إلى الحلول السهلة التي تكمن في تحميل الزبائن الذين لا ذنب لهم مسؤولية تراجع أرباح هذه البنوك من خلال فرض رسوم لا أول لها ولا آخر. ولذلك، فإن الأمر ذو جانبين، الأول يكمن في ضرورة تدخل المصرف المركزي، حيث يدخل ذلك في صميم اختصاصه وفق قانون المصرف، أما الجانب الآخر، فيخص البنوك التجارية ذاتها، إذ إن تعويض الخسائر من خلال الرسوم، هو محاولة للهرب إلى الأمام، وهو إجراء مؤقت وضار، أما التوجه الصحيح، فيكمن في معرفة ومعالجة الأسباب التي أدت إلى الوقوع في أخطاء قاسية قبل وأثناء وبعد الأزمة، وبالأخص ما يمكن أن نسميه بـ"إسهال القروض" الذي كلف البنوك -ولا زال- مليارات الدولارات. وسنة سعيدة للجميع.