مع سهولة التنقل في "القرية العالمية"، من أكثر الأسئلة التي يلقيها عليَّ "الآخر الأجنبي" ما يتعلق بماهية "العقل العربي أو الإسلامي"، فهل نستطيع بالمثل تبيان خصائص "العقل الغربي"، رغم تباين دوله؟ أليس هذا ضرورياً لتخطيط قراراتنا وحتى سلوكنا اليومي؟ أن تترك المنطقة العربية بشمسها الساطعة ودرجة حرارتها العالية، لتذهب حيث صقيع الشمال وثلوجه المتراكمة، قد يبدو القرار الخاطئ! قالها صديقي القادم للتو من فرنسا وهو يقص عليَّ تفاصيل معاناته في مطار شارل ديجول، ثم في مطار هيثرو بإنجلترا وفوضى الثلوج في شوارع أوروبا... ألا يجب أن أكون أكثر "عقلانية"؟ كان منطقه قوياً، وكانت أفواج السياح الوافدة على مصر وتونس والمغرب، للتمتع بشواطئنا، خير دليل على صحة منطقه، وأني فعلاً أسير في الاتجاه المعاكس، لكني حجزت بطاقة سفري وحزمت أمري. فالرحلة إلى بلاد الشمال ولو حتى لأيام قليلة هي تجوال في المجتمع وخاصة العقل الغربي، خاصة عندما تتكرر لترى آثار تطور ينمو بسرعة، أو تقوم بالزيارة في فترة حاسمة تزيح أمامك الستار عن كنه المجتمع وعقليته الجماعية، وفترة أعياد الميلاد -الكريسماس- والانتقال إلى عام جديد هي أهم هذه المناسبات التي ترى فيها جوهر المجتمع، وخاصة جوهره المضيء؛ فهناك ضغط اجتماعي جارف لكي ينسى الناس خلافاتهم ويتآلفون معاً، تماماً كما يحدث عند المسلمين بمناسبة رمضان أو عيد الأضحى، كما أن نهاية عام قديم وبداية عام جديد، تدفع الغالبية للقيام بكشف حساب لسلوكهم بما فيه من آمال وآلام، وإعادة النظر في بعض تصرفاتهم، وقد لاحظت فعلاً أن معظم الناس يتكلمون في هذه الفترة أكثر من اللازم، ولا يترددون في إظهار بعض المشاعر الدافئة. بين زمرة المعارف والأصدقاء الذين أراهم في مثل هذا الوقت كل عام، لاحظت وجهاً جديداً حول المائدة: ألمانية في الأربعينيات من عمرها، قررت منذ ثماني سنوات ألا ترتبط بعمل ثابت، بل تعمل لكي تكسب من المال ما يكفيها لتجوب العالم، وكانت هذه المرة في مونتريال الكندية في طريقها إلى رحلة حول العالم تأخذها إلى نيوزيلندا وأستراليا، أكثر من 26 ساعة سفر بالطائرة، بخلاف عدد الساعات التي تقضيها في المطارات وتغيير الطائرة. والمطارات بالنسبة لها ليست مجرد مكان لانتظار الطائرة، بل هي أيضاً مكان لالتقاء الثقافات، كما نرى في تعدد الملبس واللغة للمترددين عليها. ولما أخبرتُ محدثتي أنه رغم هذا التنوع الثقافي في المطارات، فالغلبة كانت في هذه الفترة للعالم الغربي المسيحي، حيث أرى شجرة عيد الميلاد تُزيِّن معظم هذه المطارات، فاجأتني بمعلومة مهمة. فشجرة الميلاد ليست رمزاً دينياً للمسيحية أو غيرها، بل تعود أصولها إلى الوثنية وما قبل المسيحية، حيث برزت في ألمانيا مع الإصرار على جلب الشيء الأخضر كرمز لاستمرار الحياة رغم الصقيع الذي يقتل كل شيء في هذه الفترة من العام، وبالتالي هي رمز أمل يتجدد بانتهاء الشتاء وانتظار الربيع، بل أفهمتني أن ما نسميه شجرة الميلاد الخضراء انتقلت بعد ذلك من ألمانيا إلى إنجلترا قبل المسيحية وذلك بالتزاوج بين عائلات النخبة في حينه. شجرة الميلاد إذن لم تكن رمزاً دينياً بل رمز للأمل في استمرار الحياة بعد طول شتاء وصقيع. وكانت مفاجأة لي عندما أخبرتني محدثتي الألمانية، أن المصريين القدامى مارسوا نفس هواية صناعة الأمل، لكن بالاعتماد على النخيل -بدلاً من أشجار الأرز التي لا يمتلكونها- وزينوا منازلهم بسعفها الأخضر على مدار الشتاء، وهكذا تكون هذه الخضرة لكل من قدامى الأوروبيين والمصريين رمزاً للأمل وبقاء الحياة رغم تغير فصول العام. من الماضي البعيد وربطه بالحاضر، كان جاري الفرنسي ينصت باهتمام، فالفرنسيون يعشقون التاريخ، وعندهم ولع قوي بمصر حتى قبل وصول نابليون في حملته أواخر القرن الثامن عشر، ونجاح عالمهم شامبليون في فك طلاسم اللغة الهيروغلوفية. لكن هذا الجار الفرنسي كان هذه المرة مولعاً بالحاضر، حاضر المنطقة العربية وخاصة مصر التي قدمت منها للتو. وعدته بالحديث والإجابة على كل أسئلته حول مصر وانتخاباتها، لكن بعد أن أسمع منه، فهو متخصص في علم النفس وبالتالي يستطيع إفادتي عن العقل الفرنسي حالياً. وكان ظني في مكانه، فهو يرأس عيادة لنصح الأزواج والزوجات عندما تتعرض حياتهم الزوجية لبعض المصاعب، ويتوجهون لمثل هذه العيادات قبل الطلاق، خاصة عندما يكون هناك أولاد. وأكد لي فعلاً أن القرار بإنهاء الحياة الزوجية يكون أسهل عندما لا تكون هناك ذرية، لكنه أكد أيضاً أنه في كثير من الأحيان يكون الأولاد سبباً مهماً للخلافات الزوجية. مثلاً عندما لا تريد الزوجة أن تنجب أكثر من طفل أو طفلين، بينما يريد الزوج أكثر، والعكس أيضاً. كما أن أسلوب تربية الأطفال عندما تكون الزوجة أو الزوج ذا فلسفات متعارضة هي أيضاً من أسباب تباعد الزوجين ثم الانفصال. ما أدهشني هو أن الخيانة الزوجية -من جانب الزوج أو حتى الزوجة- ليست سبباً مهماً في الطلاق، بل يتم الصفح عنها بسهولة نسبية خاصة عندما يتعهد المذنب بأن تكون "آخر مرة". أدهشني أيضاً أن الزيجات المختلطة -بين فرنسي وأجنبية مثلاً- لا تعاني أكثر من غيرها من مخاطر الانفصال، بل يأتي قبل هذا المتاعب اليومية التي تمارس ضغوطها على استمرار الزواج، وأن الفرق يضيق الآن بين المصاعب التي تواجهها الزيجات الفرنسية الصرفة وزيجات المغتربين -من الشمال الأفريقي مثلاً- والذين استقروا في فرنسا منذ فترة طويلة ومن مستوى علمي واقتصادي متقارب. وطالما يحاول "الآخر" دائماً فك طلاسم طريقة تفكيرنا، فلنحاول من جانبنا دراسة عقليته الجماعية.