خلال أقل من شهر دعيت للمشاركة في أربع ندوات تبحث العلاقات العربية الإيرانية، شارك فيها الكثير من الباحثين العرب، وبعض الإيرانيين وقليل من الأتراك أحياناً. كان بعضها في دول الخليج العربية أو بدعوة من مراكز خليجية. لا يعكس هذا الطلب المتزايد على دراسة العلاقات بين إيران والعرب تغيراً إيجابياً في تصور العلاقة التي تجمع الطرفين عند أطياف النخبة العربية والرأي العام. فلا تزال إيران تشكل بالنسبة للقسم الأكبر من الحكومات العربية مصدراً للقلق د، بسبب سعيها لمراكمة القوة العسكرية، وطموحها للعب دور قيادي في المنطقة، وما أصبحت تمتلكه من قواعد مادية وسياسية لمد نفوذها في العالم العربي. كما أن صورتها لم تتأثر كثيراً عند قطاعات من الرأي العام العربي، خاصة التيارات القومية واليسارية التي تستفزها سياسات إسرائيل والغرب الممالئ لها. فهي لا تزال تمثل في نظر الكثيرين تلك القوة الإقليمية التي انقلبت في ثمانينيات القرن الماضي من دولة تعادي القضية الفلسطينية علناً وتعمل حارساً للمصالح الغربية في الخليج، إلى قوة معادية للغرب ومناصرة للقضية الفلسطينية وشريكة للعرب في تأكيد الهوية الإسلامية التي تحولت إلى مكسر عصا لدوائر اليمين الغربي. وبالمثل، لم يطرأ أي تغير جوهري على سياسة طهران التقليدية تجاه المنطقة المشرقية. فهي لم تتخل عن مشروعها النووي الذي يثير قلق جيرانها، خاصة في الخليج، ورفض جميع المبادرات الرامية إلى حرمان طهران مما تعتبره حقها الطبيعي في امتلاك التقنية النووية، والتخصيب على أراضيها. بل ليس من المبالغة القول إنها لم تكن في أي وقت مضى قريبة من تحقيق هدفها هذا، كما هي الآن، وذلك بصرف النظر عن الحصار المفروض عليها والعقوبات التي تتعرض لها منذ ثلاثة عقود. ورغم زيارات وخطابات التطمين التي قام بها ولا يزال يقوم بها مسؤولوها إلى العواصم العربية، لم تتراجع طهران عن أي من خياراتها الإقليمية في دعم "قوى الممانعة". وما كان للسياسة التي مارستها في العراق بعد سقوط نظامه السابق، وفي ظل الاحتلال الأميركي، إلا أن تزيد مخاوف الدول العربية من سياسة المحاور التي تتبعها، وتعمق الشك في إمكانية التوصل مع إيران إلى تفاهم يضمن الحد الأدنى من التعاون والتنسيق. وهذا يعني أن تنامي الطلب على دراسة العلاقات العربية الإيرانية لا يعكس ازدياد الأمل في تحقيق اختراق في هذا الميدان يسمح بإعادة بناء هذه العلاقات على أسس أفضل، ويزيل أو يخفف القلق الناجم عن الدور الإيراني في سياق الانقسام العربي وغياب أي أجندة أمنية عربية، عند الحكومات العربية والرأي العام. وربما كان يشير، بالعكس من ذلك، إلى تزايد شك العرب، خلال الأعوام القليلة الماضية، في تماسك سياساتهم الأمنية، وقلقهم من تنامي عوامل التآكل في الأسس التي قامت عليها هذه السياسات، وخاصة تجاه إيران. ومن هذه العوامل انحسار الثقة بقوة الردع الأميركية وبصدقية واشنطن الاستراتيجية في منطقة شهدت فيها استراتيجية الدولة الأعظم ولا تزال نكسات حقيقية. وهذا ما يعكسه المصير المأساوي لمبادرة الإدارة الأميركية السابقة لإعادة هيكلة الشرق الأوسط الموسع، واضطرار واشنطن للعودة نحو سياسة تعزيز الاستقرار والحفاظ على الوضع القائم السابقة، وخسارتها الحرب في العراق لصالح خصمها الإيراني الذي لم يخض الحرب، بالإضافة إلى فشل إدارة أوباما في احتواء "طالبان" وتحقيق النتائج المنشودة في الحرب الأفغانية، وأخيراً انكشاف العجز الأميركي المريب في مسألة وقف سياسة التوسع الاستيطاني الإسرائيلي، فما بالك بفرض حل الدولتين الذي بشر به أوباما لعام 2011 في فلسطين التاريخية، أي إقامة الدولة الفلسطينية المستقلة وإنهاء النزاع العربي الإسرائيلي بأكمله. ومن المؤكد أن انحسار الثقة بالصدقية الاستراتيجية الأميركية لا يساعد غالبية أقطار المنطقة على الشعور بالأمن والاستقرار، بل ربما يدفعها إلى البحث عن حلول بديلة ممكنة. والعامل الثاني هو ما يبدو على طهران من تنامي الثقة بنفسها، في موازاة تعثر المساعي الغربية لوقف محاولاتها الحصول على التنقية النووية، سواء أكان ذلك عن طريق فرض العقوبات عليها أو التهديد بعملية عسكرية لا يكاد أحد يعتقد بعد بنجاعتها أو حتى بإمكانية تحقيقها، بما في ذلك أكثر الدول حماساً لعملية "جراحية" تقضي مرة واحدة وإلى الأبد على قدرات طهران النووية. وهذه الثقة بالنفس، رغم جميع المصاعب الداخلية التي تعانيها إيران، هي ما يفسر تصاعد اللهجة القومية عند القيادة الإيرانية وحرصها المتزايد على التعبير عن مطالبها السياسية وعدم ترددها في تأكيد حقها في امتلاك التقنية النووية بموازاة المطالبة العلنية بلعب دور رئيسي في السياسات الإقليمية، بل وضع هذا "الحق" في مقدمة أهدافها السياسية. أما العامل الثالث الذي يكمن وراء قلق الأطراف العربية فهو من دون شك تأكد عجز العرب الملفت عن التوصل في ما بينهم إلى أي نوع من التفاهم حول أجندة أمنية تساعدهم على مواجهة التهديدات المتزايدة، وتتيح لهم المشاركة ولو بدور ثانوي في تحديد هوية النظام الإقليمي الذي هو الآن قيد التكوين، وضمان الحد الأدنى من توازن القوى الذي يمنع من تحويلهم إلى فريسة تتقاسمها القوى الدولية والإقليمية. وهذا ما عبر عنه على أفضل وجه مؤتمر مداولات آخر القمم العربية في مدينة سرت الليبية، وقد فشل بشكل خاص في معالجة مسألة تصاعد وزن القوى الإقليمية بالتوازي مع تدهور استراتيجيات الحماية الأجنبية التقليدية وتعثر مشروع الحل السياسي للمسألة الفلسطينية. أمام زوال أي أمل ببلورة أجندة أمنية عربية لا يمكن من دونها مواجهة أي مشكلة من المشكلات السياسية والاستراتيجية المطروحة على الدول العربية، لا يكاد العرب يجدون حلاً لمشاكلهم الأمنية في نهاية هذه العشرية الأولى من القرن الحادي والعشرين غير الرهان على قوى إقليمية صاعدة أخرى توازن صعود إيران. ومن الطبيعي في هذه الحالة أن يتحول مركز الاهتمام مباشرة نحو تركيا، وتحل المراهنات على دورها الإقليمي الإيجابي محل الجهد المطلوب لتكوين قوة توازن عربية، يشكل الافتقار إليها المصدر الأول للشك والقلق والاضطراب في منطقة يمثل العرب، بما لا يقاس، كتلتها السكانية الرئيسية.