يتابع الإعلام العربي بقلق مسار انفصال جنوب السودان، وذلك من الإشارات الخارجية بأكثر مما يتابع الواقع السوداني شمالاً وجنوباً، بل إنه عندما يتجه إلى هذا الواقع، مع هدوء الإشارات الخارجية، يتجه لسلبيات الموقف في الجنوب بأكثر مما ينتبه لتعقيدات الموقف في الشمال. وأظن أن ذلك ما يجعلنا في حالة الترقب والإثارة من الأخبار يوماً بيوم حتى التاسع من يناير 2011، وهذا بدوره موضع الدهشة، وعدم اليقين. ولا أدرى بدوري، لماذا لم يبدأ هذا العد التنازلي منذ أبريل 2010، أي عقب الانتخابات الرئاسية والعامة بإدارة مشتركة بين "المؤتمر الوطني" في الخرطوم و"الحركة الشعبية لتحرير الجنوب"، ويومها قال الكثيرون، هذه شراكة التقسيم وليست الوحدة، فثمة مرشح قوى للمؤتمر الوطني في الشمال هو الرئيس زعيم "جبهة الإنقاذ" والحاكم سياسياً، بينما ترشحت الزعامة الجنوبية القوية في الجنوب فقط اكتفاء بترشيح شمالي مدعوم جنوبياً للمنافسة على المستوى الوطني، ويومها بدا واضحاً، ومن خلال الهدوء النسبي، الذي اتسمت به هذه العملية "السياسية" أن الرجلين- البشير وسلفاكير- على وفاق، أو مساومة- للوصول بهدوء لمرحلة الاستفتاء، مهما أظهر كل منهما من بعض أشكال التشدد؛ إما ذراً للرماد، أو لكسب أكبر عدد ممكن من أوراق الثروة أو السلطة أو لمواجهة مشاكل في الإقليم وهي أعمق في أحدها عن الآخر، وهذا هو المشكل الحقيقي. ونعرف جميعاً أن الجنوب قد بدا مستقراً على ملامح خريطة الانفصال، وأن الأرض ممهدة إلى حد كبير في هذا الاتجاه، فالجنوب لا يعاني حضور قوى سياسية ضاغطة هناك بسبب الغياب الطويل للأحزاب السياسية الشمالية طوال فترات الصراع، كما أن القوى التي تبدو رافضة لـ"الحركة الشعبية" أو منافسة نسبياً هي قوى "تمرد" أكثر منها قوى سياسية، سواء كان ذلك في منطقة جونجلي أو "الوحدة" أو بحر الغزال، والجميع سيتسامح عند مواجهة حركة تمرد أو احتجاج محدودة، ومن ثم يمضي الجنوبيون في ترتيباتهم تحت زعامة استعادة السيطرة بعد رحيل "قرنق"، الذي خلف حركة ذات طابع سياسي وعسكري جنوباً، لها حضورها المناسب في الشمال أيضاً. ويحرص سلفاكير رئيس حكومة "الجنوب" بين فترة وأخرى على لم الشمل في إقليمه بالاجتماع في جوبا وخارجها مع تلك "القوى"، التي قد تكون "شاردة" عن "خط الوفاق الانفصالي"، أو طامعة في موقع تبتغيه عقب الانفصال. حرص سلفاكير أن تشمل خريطة الانفصال إعادة الانتخابات في الجنوب، بل والتلويح بتوزيع السلطة والثروة أيضاً في الجنوب في عملية تبدو ديمقراطية سياسية واجتماعية في آن، لتستقر مفاتيح الخريطة في يده بينما يواصل بعض أهله التمسك بفلسفة "السودان الجديد" في الشمال للتلويح بإمكانيات الوحدة مستقبلاً لو ساء الوضع في الجنوب. تبدو الخريطة مضطربة في الشمال، وإزاء نفس "عناصر الموقف" الهادئة في الجنوب إلى حد كبير. الأمواج المتلاطمة في الخريطة السياسية لا تجعل النظام يبدو هادئاً، بل إن طريقة التصريحات الاستفزازية نحو كافة الأطراف ومن قبل معظم الأطراف الحاكمة، تبدو غير مطمئنة لأحد، فثمة تهديدات وممارسات في دارفور تؤجل "حلقات النقاش" حولها في الدوحة وغيرها، وثمة تجاهل وتشدد مع القوى السياسية جعلت الصادق يهدد بالاعتزال أو "التطرف"، كما جعلت الاتحاديين يناشدون مصر بما لا تستطيعه في الواقع السوداني الآن. ومن ثم لا يستطيع أحد التنبؤ بشكل إدارة الحكم في الخرطوم للحوار مع النظام الحاكم في "الجنوب" أو مع القوى السياسية في الشمال بعد يناير 2011. وإذا استمرت لغة العنف من قبل النظام في الشمال تجاه قواه المحلية أو تجاه الجنوبيين بما هي عليه الآن، فسوف تتراكم في الموقف كوارث دارفور وشرق السودان والعزلة العربية والأفريقية. وقد أدت إجراءات النظام منذ العملية الانتخابية في ربيع العام إلى التمهيد لهذا الارتباك، فلم يجر وفاق حول "الرئاسة" أو التمثيل البرلماني المتوازن، ولا حوار للتهدئة مع هذا الطرف أو ذاك من بين القوى السياسية المتفاعلة، ولا وعود مطمئنة لما بعد الانفصال، بل إنني أرى، في مشهد نادر، كيف تصبح صيغة "إيديولوجية" مثل "دولة الشريعة" –أي الدولة الإسلامية المطلقة، تهديداً للداخل والخارج بهذا الشكل الذي أعلنته القيادة السودانية مؤخراً! ولم أعرف لمن توجه هذه الرسالة "المحتدة"، بينما أطراف الشريعة التاريخيين أنفسهم قوى مهددة للنظام أو متحفزة تجاهه من مثل زعماء الصحوة الإسلامية ( المهدية – أحزاب الأمة) أو "المؤتمر الشعبي" بقيادة فيلسوف "الإنقاذ" حسن الترابي، ناهيك عن موقف" القوى الحديثة" واليسار ، وحتى "الجنوبيين" المتعاطفين مع "المراجعة" مع الشمال رغم الانفصال في حوار يأتي بعده. فمن يستطيع أن يفسر بسهولة أثر هذه الحدة والنظام على مشارف حادث أليم بالنسبة له مثل انفصال "الجنوب". لن تكسب الخرطوم بهذا الشكل إلا توتر علاقاتها مع أطراف خارجية وداخلية مهمة بالنسبة لها في وقت تتجه هذه الأطراف بهدوء للتعامل مع الجنوب. وقد يكون موقف مصر وبعض الأطراف العربية نموذجاً لرغبة في توصيل رسالة التوافق هذه إلى الخرطوم، بينما ترسل الأخيرة رسائل التشدد إلى العالم الخارجي كله. وقد كنا تصورنا عقب تهدئات ما بعد انتخابات 2010 أنه من الممكن الحديث عن" فيدرالية" أو "كونفدرالية" بين الإقليمين تجعل "الجنوبيين" مطمئنين على حقوقهم المدنية والعلمانية في ظل الوفاق الذي تحدثنا عنه. وحتى وقت قريب كانت الإدارة الأميركية تراجع فلسفتها عن "دولة ونظامين". بل وتحدثت الدبلوماسية المصرية عن أفكار مماثلة رغبة في التهدئة. فهل يمكن أن تمضي خريطة الانفصال سلمية في هذه الأجواء المتوترة في الخرطوم؟ إن ما يسمى بضرورات التماسك وتحقيق مظاهر "الاندماج القومي" تُلمح بها الآن تصريحات رسمية وشبه رسمية عن عدم قبول فلسفة "التنوع العرقي والثقافي" في الشمال. ومعنى ذلك الإطاحة بكل إمكانيات التحالفات الجبهوية أو الوطنية ذات الضرورة الملحة في هذه اللحظة. أو نتوقعها –للضرورة- خارج إطار النظام ثانية! وهنا يظل السؤال: على أي أساس سيعالج المثقفون العرب وخاصة في مصر العلاقة مع الخرطوم، وهي تصدر هذه الإعلانات الغريبة على لغة العصر وكل المنطقة العربية؟ وفي الوقت الذي تتمظهر فيه تدريجياً إمكانيات قبول "التنوع" ونتائجه السياسية في العراق ولبنان والمغرب وموريتانيا، بل ومن أهل الجنوب السوداني نفسه؟ ومن يقبل الآن في مصر حديث "الشراكة الاستراتيجية" مع بعض قوى الشمال فقط في ظروف الانفصال، ومثل هذه التوجهات الانعزالية أو الإقصائية في الشمال؟ ألا يستدعى ذلك من أطراف مثل هذا الجدل في الخرطوم وخارجها أن يراعوا بشكل عملي أفضل منطق للعمل الإقليمي أفريقياً وعربياً على السواء؟ وحيث سيبدو الموقف في حوض النيل أخطر من مجرد موقف تجاه نظام الشمال السوداني، فإنه يصبح على أطراف أي حوار إقليمي عدم التوقف عند مجرد "تسييس" قضية المياه، حيث لم يعد موقف الحكم في الخرطوم نفسه بسيطاً في هذه المسألة تجاه مصر كما هو تجاه أوغندا. وهكذا، بينما يجرى "التسييس" على أشدة في إثيوبيا، وتتوه قضية التنمية المشتركة أو المتكاملة في المنطقة، مع غياب أية خريطة استراتيجية حقيقية فيها، ومن ثم تصبح فلسفة العمل في"حوض النيل" فوق مجرد العمل في "وادي النيل"، وهذا جزء من عولمة القضايا التي يتوجب دراسة تطور آلياتها بعناية لتشمل الطاقة والزراعة والبترول معا في المنطقة بعد هزة انفصال الجنوب.