تعاني المؤسسة الدينية في العالم الإسلامي من تكلس متراكم يعكس حالة الركود والتخلف التي يعاني منها المسلمون. ويتجسد هذا التكلس في عدة أوجه أولها استقالتها عن إنتاج الفكر الاستناري الذي يواكب العصر ويسهل على المسلمين معاشهم والمصالحة مع الحياة الحديثة التي يواجهونها. وثانيها يتمثل في انطوائها تحت أجنحة بعض أنظمة الحكم القائمة فلا تتجرأ على القيام إلا بما تسمح به تلك الأنظمة بما يحولها إلى أداة توظيفية تعمل على توفير الشرعية الدينية للوضع القائم ليس إلا. وثالث أوجه التكلس، وهو سبب ونتيجة في الوقت نفسه، يعود إلى أن الدراسات الدينية بشكل عام في الزمن الراهن لا تجتذب إلا أقل الطلبة كفاءة وتحصيلاً وأضعفهم قدرة على الإبداع والنقد والتحليل، وبالتالي فإن بعض خريجي المؤسسات الدينية لا يتمتعون بالقدرات العالية التي يحتاجها الاجتهاد والقياس والابتكار، بما يبقيهم في دوائر النقل والتقليد والنسخ وإعادة وتكرار ما هو موجود في التراث. وهذه النقطة الأخيرة لا تنطبق فقط على المؤسسات الدينية التي تعمل على تخريج طلبة في علوم الشريعة والدين، بل وأيضاً على كليات الشريعة في معظم الجامعات العربية. فتلك الكليات قد لا تستقطب إلا الطلبة الذين يفشلون في الالتحاق بأي من الكليات الأخرى بسبب تدني علاماتهم في الشهادة الثانوية العامة، وبالتالي فلن يكون من المتوقع أن يكون خريجو الشريعة مبدعين ومجتهدين من الطراز الأول. تقف المؤسسة الدينية التقليدية وخريجوها كأحد المتهمين الرئيسيين في الوصول إلى حالة التخلف التي تسم واقع العالم الإسلامي، بسبب ترددها في تبني اجتهادات تفتح آفاقاً حقيقية للمجتمعات المسلمة في تواصلها مع ذاتها وفاعليتها الحضارية ومع العالم المعاصر قيميّاً وحضاريّاً. فعلى مدار أكثر من قرن، أي منذ إرهاصات الإصلاحية الإسلامية في أواخر القرن التاسع عشر واتصالها بالغرب وبروز دعوات التحديث الإسلامي، وقفت المؤسسة الدينية في معظم بلدان العالم الإسلامي أمام تيار الاجتهاد الإصلاحي الذي حاول بكل قواه خلق صيغ للاجتماع السياسي تضمن تفعيل طاقات المجتمعات المسلمة ودفعها إلى الأمام من ناحية، والمصالحة مع الحداثة الغربية وتطوير مفاهيم وآليات إسلامية تستوعبها من ناحية ثانية. وقد تم تقويض أهم محاولة لخلق صيغة للاجتماع السياسي المعاصر من خلال مواجهة الشيخ الأزهري علي عبدالرازق ومحاولته الاجتهادية والجريئة في "الإسلام وأصول الحكم" التي لولا وقوف الأزهر في وجهها لكان بالإمكان أن تكون بمثابة بدايات الإصلاح في الإسلام. أما المصالحة المقصودة هنا مع قيم العصر الحديث فمتعلقة بالقيم وليس بالتكنولوجيا والعلوم التطبيقية، وعلى وجه التحديد القيم التي نظمت علاقة الدين بالمجتمع والسياسة العامة والحريات الفردية وقيم المساواة والمواطنة وشكل الدولة الوطنية. والشيء المُمض أن كثيراً من تلك المؤسسات الدينية تتسابق في استخدام آخر ما توصلت إليه تكنولوجيا العصر من تقنيات تعليمية وشاشات فيديو وإنترنت، لكن من دون استيعاب للثورة الفكرية والقيمية التي أنتجت الثورات التاريخية في التكنولوجيا والعلوم التي يشهدها العالم اليوم. وقفت المؤسسة الدينية وما تزال في وجه التحديث الإسلامي، فتحت مزاعم الدفاع عن الدين قادت إلى موضعة الدين في مواجهة مباشرة مع العصر مما ساهم في إنتاج استقطاب حاد في معظم البلدان الإسلامية بين المدافعين عن الدين والمدافعين عن الحداثة. وكان من المفترض أن يكون دور تلك المؤسسة هو الجسر الواصل بين قيم العصر وحداثته وهوية ودين وتاريخ المجتمعات، بحيث لا تشعر تلك المجتمعات بأنها تنقطع عن ذاتها عبر تبنيها لما هو حديث. ثم تحالفت تلك المؤسسة بشكل مباشر أو ضمني مع التيارات الإسلامية التي قطعت هي الأخرى مع الإصلاحية الإسلامية المستنيرة، واتجهت نحو صيغ عداء ومواجهة مع الحداثة الغربية عوض الاستفادة منها والمصالحة معها. وقد انضمت إلى هذا التحالف المبطن (على مستوى التمسك بالقيم التقليدية الجامدة والمتكلسة) أنظمة عربية وإسلامية مهمة وكل منها لأهداف خاصة بالسيطرة على الحكم في بلدها. وقد أنتج كل ذلك منظومات قيم دينية وتربوية مدعومة بمناهج تعليم متخلفة ترعاها المؤسسة الدينية إما عبر صياغتها بشكل مباشر أو عبر إقرارها، هذا فضلًا عن وقوف تلك المؤسسة في وجه الإبداع بمختلف أشكاله الكتابية أو الفنية. ولهذا فإن أثر المؤسسة الدينية الأهم يمكن رؤيته في العملية التعليمية والتربوية وعلى مستوى وزارات التعليم، حيث تلعب هذه المؤسسة دور الحارس على ما تتضمنه المناهج التعليمية، وهو دور تكليسي في معظم الأحوال، يعزز التقليد والنقل على حساب النقد والتحليل وبالتالي الاجتهاد. وللتدليل على ذلك يكفي أن نلاحظ غياب مقررات الفلسفة والمنطق وما يعزز دور العقل والنقد في العملية التدريسية في معظم البلدان العربية. ويطال ذلك الغياب التقليد الإسلامي الرفيع في الفلسفة ممثلاً بابن رشد وابن خلدون والفارابي وأبي حيان التوحيدي وغيرهم عشرات ممن يغيبون عن المناهج التعليمية، مقابل سيطرة التوجهات النصية والنقلية الجامدة. لهذا فإن إصلاح المؤسسة الدينية فكريّاً واجتهاديّاً بالدرجة الأولى ثم تنظيميّاً وإداريّاً بالدرجة الثانية لجهة إعادة مأسستها في أشكال أكثر شفافية وأكثر ديمقراطية يصبح أمراً بالغ الأهمية وملحاً إلى درجة قصوى. وفي ما يتعلق بالإصلاح الإداري وشكل الأداء فإن النقطة الأساسية هنا هي إعادة بناء هذه المؤسسة على قواعد غير أبوية وغير بطركية بحيث ينفتح المجال أمام الأجيال الشابة من علماء الدين كي يعبروا عن اجتهادات جديدة غير تلقينية وغير نصية، من دون الخوف من مراقبة الشيخ أو المفتي الأكبر. هذا مع ضرورة تحسين الاعتبارات المادية والمعنوية للملتحقين بهذه المؤسسات بحيث تجذب الطلبة ذوي القدرات الذهنية العالية. لكن علينا أن نتذكر دوماً أن إصلاح المؤسسة الدينية في العالم الإسلامي لا يمثل إلا جزءاً يسيراً من عملية إصلاحية شاملة وأكبر يجب أن تطال التعليم والسياسة والاجتماع والنقد وطرق التفكير. ومن الصعب تخيل حدوث الإصلاح في بقعة منعزلة في حين يتواصل التخلف والركود في بقية الفضاء الاجتماعي والثقافي والسياسي. بيد أنه يمكن القول إن إصلاح المؤسسة الدينية قد يكون إحدى البدايات المشجعة التي تمنح شرعية مباشرة، أو غير مباشرة، لعملية الإصلاح الشامل التي طال انتظارها.