لاشك أن قصة عيد الميلاد مثلما تروى في الغرب، في الكتاب المقدس والتقاليد المسيحية، تحتوي على عناصر خالدة حددت ملامح ثقافتنا على نحو بالغ الأهمية. ومثلما نرويها كل عام، فإن القصة تحمل بين ثناياها "ثيمات" قوية تثير مشاعر عميقة لدى من يسمعونها. وهي في جوهرها قصة طفل مغلوب على أمره وُلد في ظروف غير مواتية، ولكن دوره غيَّر التاريخ الإنساني. ولم يدرك أهمية هذه الولادة في البدء سوى البسطاء من الناس، "رعاة الحقل"؛ ولاحقاً، أتى "ملوك قادمون من الشرق" من أجل تكريمها حاملين الهدايا؛ ولكن ظهورهم أثار سخط وغضب الحكام المحليين، مما أرغم أسرة الطفل على الفرار من أجل إنقاذ حياة مولودهم الجديد. وأود أن أتوقف هنا لتأمل عناصر هذه القصة و"ثيماتها" والنظر إلى الوقائع المعاصرة من منظورها. فقبل ألفي عام، كانت فلسطين ترزح تحت وطأة احتلال قاسٍ، على غرار ما هي عليه اليوم تقريباً؛ ولكن من بعض النواحي، كانت الظروف وقتئذ تسمح لسكان فلسطين المحتلة بقدر أكبر من التحرك مقارنة مع السكان الحاليين لتلك الأرض. ومثلما يُحكى لنا، فقد اضطر أفراد من أسرة المسيح للانتقال من الناصرة حيث كانت لتذهب إلى بيت لحم من أجل تحقيق شرط فرضته السلطات: التسجيل في بلدة أجدادهم في إطار إحصاء عام. أما اليوم، فإن كل ذلك سيكون مستحيلًا بالطبع، وذلك لأن أي فلسطيني من بيت لحم لا يمكنه أصلاً الانتقال إلى الناصرة بسبب الاحتلال وإغلاق الضفة الغربية اللذين يجعلان هذا النوع من التنقل مستحيلاً. وعلاوة على ذلك، فإن القانون الإسرائيلي اليوم يحظر على عربي من الناصرة الزواج بامرأة من بيت لحم وجلب زوجته عبر الخط الأخضر للإقامة في إسرائيل. ثم إن آلاف الفلسطينيين في بيت لحم، مسلمين ومسيحيين، يستطيعون رؤية القدس من منازلهم، إلا أنهم لا يستطيعون الذهاب إلى المدينة المقدسة من أجل الصلاة. ومن جانبهم، لا يستطيع المسيحيون العرب من القدس الذهاب بسهولة لحضور القداسات الدينية التي تقام في بيت لحم بمناسبة عيد الميلاد من أجل الصلاة إلى جانب أبناء ديانتهم الأوروبيين والأميركيين الذين يأتون لحضور هذا الحدث الديني الموسمي. وإذا كانت بيت لحم القديمة مكتظة بالناس وترزح تحت الحصار، فإنها اليوم أيضاً مخنوقة ومحاصَرة بالمستوطنات التي صادرت أراضي المدينة التاريخية من أجل إفساح المجال أمام جدار/حاجز بارتفاع 30 قدماً ومساكن ضخمة مخصصة لليهود فقط تعزل العرب وتفصلهم عن القدس القريبة. وقد أرغمت هذه القيود وغياب الفرص الاقتصادية سكان بيت لحم على الفرار بحثاً عن الوظائف والحرية، حيث يعيش عشرات الآلاف منهم (وأبناؤهم وأحفادهم) اليوم في الولايات المتحدة والأميركتين. صحيح أنهم يستطيعون العودة من أجل الزيارة بصعوبة، إلا أن سلطات الاحتلال لا تسمح لهم بالإقامة الدائمة في البلدة التي ينحدرون منها. وإذا كان الملوك قديماً قادرين على السفر من بقاع بعيدة حاملين الهدايا لتكريم الطفل المولود حديثاً، مثلما يحكى لنا، فلا يسع المرء إلا أن يتخيل الصعوبات التي كانوا سيواجهونها اليوم في التعامل مع الجنود الإسرائيليين في المعابر ونقاط التفتيش الإسرائيلية. ولما كنتُ شخصيّاً أحد الذين عانوا من استنطاقاتهم، فإنني أستطيع أن أتخيل الملوك وهم يُستجوَبون ساعات طويلة ويجيبون على سيل من الأسئلة من قبيل "من أي بلد أنت؟" و"من هما والداك وأجدادك؟" و"لماذا جئت إلى هنا؟" و"من الشخص الذي ستزوره؟" و"لماذا هذه الهدايا؟"... إلخ. وبالتالي، فإن المرء يشك في أنه كان سيُسمح لأولئك "الملوك القادمين من الشرق" بالدخول، من الأساس. ولئن استطاع أفراد من أسرة المسيح الفرار إلى مصر هرباً من غضب هيرودس وانتقامه وقتئذ، فإن ذلك بات غير مرجح اليوم بسبب الحاجز/الجدار الذي يحيط بالضفة الغربية، والذي سيجعل من مثل هذه الرحلة أمراً غير ممكن في الواقع. وإذ أتأمل حدث ولادة المسيح وما ينطوي عليه من معانٍ ودلالات، لا يسعني إلا أن أفكر في الأطفال الـ400 الذين يولدون في هذا اليوم لوالدين فلسطينيين في الضفة الغربية وقطاع غزة؛ كما أفكر في عدد الأطفال الذين سيموتون أثناء الولادة بسبب الخدمات الطبية غير الكافية (حيث يتعرض بعض الأطفال لخطر الموت في نقاط التفتيش لأن الجنود الإسرائيليين لا يسمحون لأمهاتهم اللائي هن على وشك الوضع بالمرور). وأفكر أيضاً في مريم قبل 2000 سنة، فأحمد الله لأنه على رغم كل ما عانته وتكبدته من مشاق، إلا أنه لم تكن ثمة نقاط تفتيش تعترض طريقها إلى بيت لحم. وتخبرنا تقاليدنا بأن فرح مريم عند ولادة ابنها كان مختلطا بحدس وتوجس؛ ذلك أنها كانت تعرف أن طفلها سينشأ ويتكبد معاناة كبيرة. وبالمثل، فإن الفرح الذي يعيشه الآباء الفلسطينيون أثناء استقبالهم مولودهم الجديد هذه الأيام يجب، بدون شك، أن يرافقه قلق، وذلك لأنهم لن يضطروا فقط للتساؤل بشأن الكيفية التي سيلبون بها احتياجات طفلهم الجديد، وإنما سيضطرون أيضاً للتغلب على مخاوفهم المتعلقة بتربية طفل أو بنت تحت نير الاحتلال، بكل ما ينطوي عليه ذلك من مخاطر وصعوبات. وبالنظر إلى كل أشكال الضغوط والإذلال الذي يتعرض له الفلسطينيون يوميّاً في الضفة الغربية والفقر المدقع واليأس الذي يواجه العالقين في غزة، فغني عن البيان أن الحياة تحت حكم الاحتلال الأجنبي المعادي يُفرغ حتى أكثر المناسبات السعيدة من بهجتها. إن هناك أغنية تقليدية خاصة بعيد الميلاد تطرح السؤال "من هو هذا الطفل؟" -والجواب بالطبع هو "المسيح بن مريم"- ولكن بالنظر إلى الرسالة العالمية التي تنطوي عليها قصة عيد الميلاد، فإننا نفهم أيضاً أن الطفل يمثل بالنسبة لنا تذكيراً بمسؤوليتنا في العناية بالمغلوبين على أمرهم وغير المعترف بهم. وبالتالي، فعندما نفكر في الأطفال الضعفاء الذين يولدون اليوم ليس في فلسطين فحسب، وإنما في أي مكان حيث الحياة خطرة، يجدر بنا ألا نسأل "من هو هذا الطفل؟" -لأننا نعلم أنهم أطفالنا الذين علينا أن نعترف بهم ونحميهم، مما يمكِّن كل هؤلاء الأطفال من النمو والمساهمة في تغيير عالمنا.