عندما كنت صحافياً شاباً حظيت بفرصة السفر وقضاء شهر كامل في ما كان يعرف حينها بالكونجو البلجيكي. وكانت تلك الرحلة من أهم الأحداث التي أثرت على تربيتي السياسية. وكان ينظر إلى الاستعمار الغربي في ذلك الحين على أنه نظام يجب أن توضع نهاية له. بيد أن قليلين جداً اعتقدوا إمكانية زواله من القارة الأفريقية خلال عقد من الزمان. وكانت القارة حالة استثنائية -وهذه وجهة نظر عنصرية لا شك فيها- غير أنها بدت عميقة الجذور في الواقع الثقافي والتعليمي والمؤسسي لأفريقيا الوسطى في منتصف عقد خمسينيات القرن الماضي. وكان للكونجو سجل استعماري سيئ للغاية، بدأ برحلات الصحافي "هنري إم. ستانلي" -التي رعتها بالنسخة الباريسية من صحيفة نيويورك هيرالد، التي صارت اليوم "إنترناشيونال هيرالد تريبيون. وفي عام 1871 التقى "ستانلي" بالمبشر الاسكتلندي ديفيد لفينجستون، الذي لم يعترف مطلقاً بأنه ضل طريقه بين أدغال أفريقيا، وتدهورت حالته الصحية وتوفي خلال عامين. وانتهت رحلات "ستانلي" الاستكشافية في القارة بإنشاء ما كان يعرف بـ"دولة الكونجو الحرة"، التي كانت تعتبر ملكية خالصة لليوبولد الثاني البلجيكي. وانتهت الفظائع التي ارتكبت هناك لاستغلال ثروات تلك الدولة الناشئة من المطاط وغيره من الموارد الطبيعية إلى التسبب بفضائح عالمية، ما أدى إلى ضم تلك الدولة المستعمرة إلى بلجيكا في عام 1908. وعقب نهاية الحرب العالمية الثانية، تحولت الكونجو إلى مستعمرة نموذجية -وإن كانت ذات طابع أبوي بطريركي- لمحو أمية المواطنين، على رغم قيامها على افتراض أن التنمية التعليمية السياسية سوف يستغرق تحقيقها عدة أجيال مقبلة. وفي حقيقة الأمر، فقد كان أمام النظام الاستعماري الحاكم هناك خمس سنوات فحسب لمغادرة الحكم لدى وصولي إلى الكونجو. ولا شك أن دول القارة الأفريقية قد مرت بتجارب كارثية ومؤلمة في تحررها من الحكم الاستعماري. ولكن ربما تكون الكونجو -التي أصبحت اليوم جمهورية الكونجو الديمقراطية- أسوأها على الإطلاق. وساد تقليد اليوم في رد هذا التحرر الكارثي المؤلم إلى القوى الاستعمارية السابقة، التي تتهم بأنها أشعلت نيران الحروب والنزاعات بين مختلف النظم أو الجماعات السياسية الأفريقية، المدعومة إما من جانب الولايات المتحدة الأميركية وحلفائها، أو من قبل الاتحاد السوفييتي والصين. ولهذه الأخيرة نشاط واضح في شراء حقوق استغلال المواد الخام الأفريقية من الأنظمة الفاسدة الحاكمة في الكثير من دول القارة. ولم تتوطد الديمقراطية مطلقاً في نظم الحكم وممارسات القادة الانتقاليين في أفريقيا الجديدة الحرة، التي يسودها وباء المليشيات المسلحة، والجنود الأطفال، والمرتزقة الأوروبيون، والمعارك الوحشية الشرسة التي تدور إما من أجل الهيمنة على موارد القارة الثمينة مثل الألماس وغيره من المعادن الاستراتيجية الأخرى، أو لسرقتها بالكامل. وتعد فرنسا الدولة الأوروبية الوحيدة التي تحتفظ بقوات عسكرية صغيرة لها في بعض مستعمراتها السابقة، عبر مجموعة من الاتفاقيات "الدفاعية" التي أبرمتها معها. وتساعد تلك الوحدات العسكرية فرنسا في حماية مصالحها الاستثمارية، وكذلك حماية رؤساء الدول الذين كثيراً ما تحوم الشكوك حول شرعيتهم المزعومة، غير أن تلك الوحدات توفر نوعاً من النظام والاستقرار في الدول التي تنتشر فيها. ففي ساحل العاج مثلاً، تدعم القوات الفرنسية هذه، الجهود التي يبذلها الاتحاد الأفريقي والأمم المتحدة لضمان استقرار نظام الرئيس الحالي الذي انتخب للمنصب عبر انتخابات معترف بها دولياً جرت في الحادي والثلاثين من شهر أكتوبر المنصرم، في وجه المقاومة التي يصعدها ضده الرئيس السابق. وفيما يبدو، فقد وجهت المحكمة الجزائية الدولية تحذيراً لضباط الجيش، طالبت فيه المؤسسة العسكرية بأن تلتزم الحياد وعدم الخوض في النزاع الدائر بين الخصمين المتنافسين. هذا ولا يزال النزاع مستمراً حتى لحظة كتابة هذا المقال. وعلى الرغم من أنه لم تصحبه أعمال عنف خطيرة حتى الآن، فإنه يظل قصة عادية من قصص النزاع السياسي في أفريقيا المعاصرة. ويصعب رد هذا النزاع وغيره على نحو مباشر إلى ما يسمى بالكولونيالية الحديثة أو الإمبريالية. ولكن على من يقع اللوم يا ترى؟ على حد رأي إبراهيما ثيوب -مؤرخ سنغالي مقيم في داكار، وخبير في معاهدات الرق والتحرر من الحكم الاستعماري- فإن معظم اللوم يقع على النخب الأفريقية الحديثة. ويستنتج إبراهيما "أن النظام الساري حالياً، هو ذات النظام الذي كان سائداً في عهود الاسترقاق الأفريقي. ووفقاً لذلك النظام، تستحوذ النخبة على موارد البلاد وثرواتها بواسطة العنف، ثم تصدرها إلى الخارج، وتنفق عائداتها فيما بعد في شراء خدمات وبضائع لا تعود بأي نفع للمجتمعات الأفريقية، لأنها لا تعكس سوى نفوذ النخبة وسعة قدرتها على استخدام العنف". "وعادة ما تكون استجابة الفئات الاجتماعية الأكثر حيوية ودينامية، هي الهرب على متن قوارب الصيد المتجهة نحو السواحل الإسبانية أو جزر الكناري. ومن هؤلاء من يدفع رسوماً طائلة لأي مهرّب للبشر يعدهم بالوصول إلى مالطا أو إيطاليا". ثم يستطرد "إبراهيما" في القول: في الماضي كان الأوروبيون قد جلبوا إلى القارة بضائع مشابهة عديمة النفع مثل المجوهرات الصناعية، والكحول والأسلحة النارية. وبتلك السلع رشا المستعمرون النخب الأفريقية التي كانت تؤمّن لأوروبا ما تحتاجه من عبيد وأيدٍ عاملة مسترقّة. والمفارقة أن هذه العملية التبادلية أصبحت أكثر سهولة اليوم. فالعبيد يقدمون أنفسهم لمن يرغب بهم. والمقصود بهؤلاء: المهاجرون. ففيما لو أعلنت أي سفينة راسية في أي من الموانئ الأفريقية عن رغبتها في حمل عبيد لأوروبا، فلا ريب أنها ستمتلئ عن آخرها خلال دقائق أو ثوان معدودات". ويختتم "إبراهيما" بالقول: "لدى أفريقيا كل ما تحتاجه لتحقيق نجاحها وتطلعات شعوبها. ولكن المشكلة أن الغزاة الأجانب غرسوا في تربتها ثقافة وحشية افتراسية. ويتطلب كسر هذا الثقافة وتجاوزها ما تئن تحت ثقله الجبال". ويليام فاف كاتب ومحلل سياسي أميركي ينشر بترتيب خاص مع "تريبيون ميديا سيرفيس"