يوم الخامس والعشرين من سبتمبر الماضي، مرت الذكرى الثالثة لرحيل رجل الوحدة الوطنية، الدكتور حيدر عبد الشافي (أبو خالد)، أحد كبار أبناء الشعب الفلسطيني الذي التحق قبل نكبة 1948 بالعمل النضالي للدفاع عن الشعب الفلسطيني، ورفض دوما الظلم فحمل الهم الفلسطيني، وتميز بالشفافية والجهد المتواصل من أجل فلسطين. وحين يذكر اسم الدكتور حيدر، يذكر الصمود الباسل ضد "الاستيطان" الصهيوني في فلسطين، ذلك أن "أبا خالد" كان أول وأبلغ من اعترض على اتفاقات أوسلو منذ لحظة التوقيع عليها، كونها لم تنص على وقف "الاستيطان". وهكذا ظل يحذر حتى وفاته -رحمه الله- من أن تلك "الاتفاقات" سوف تؤدي إلى انتشار السرطان الاستيطاني في الأراضي الفلسطينية المحتلة 1967. وهذا هو الواقع البائس اليوم حيث تزامنت ذكرى الراحل الفذ مع تكثيف حركة الاستيطان، ومع الحديث عن "الاستيطان" باعتباره السبب الرئيس في فشل المفاوضات. يومئذ، اتفق كثيرون مع طروحات الراحل، مؤسس العديد من النقابات والتجمعات والمؤسسات الخيرية، وأحد القادة الأوائل في المجلس الوطني لمنظمة التحرير. ويومئذ أيضاً، خالفه كثيرون ممن "أحسنوا الظن" بإسرائيل واعتقدوا أن الحل قادم بسرعة في حدود خمس سنوات لا أكثر، الأمر الذي لم يدفعهم للتركيز على شأن "تفصيلي" مثل "الاستيطان"! وبعد ثمانية عشر عاما من "المفاوضات" الماراثونية العبثية، اتضح أن وجهة نظر عبد الشافي، رئيس ومؤسس "حركة المبادرة الوطنية الفلسطينية"، والذي لعب دورا فاعلا في التطبيب والعون حتى السنوات الأخيرة من حياته، هي وجهة النظر الصحيحة. فالاحتجاجات والمناشدات الفلسطينية والدولية لتغيير سياسة إسرائيل الاستعمارية لم تجْدِ نفعاً. بل إنه، في ظل التنديدات والاستجداءات، يستمر ويتصاعد البناء "الاستيطاني" وتتواصل مصادرة الأرض وهدم البيوت وغير ذلك من مقارفات. وفي ظل وجود حكومة اليمين المتطرف برئاسة نتنياهو تزايدت قرارات ومصادقات الحكومة الإسرائيلية على زيادة البؤر "الاستيطانية" بالضفة الغربية، إضافة لمصادقات حول تغيير مسار جدار الفصل العنصري لضم الكتل "الاستيطانية" وتحديداً بمنطقة القدس "الموسعة"! لقد جرب الفلسطينيون المفاوضات، المتزامنة مع هدير جرافات "الاستيطان"، زمناً طويلا، ولم تؤد إلى اتفاق. وخوفاً من تآكل الموقف الفلسطيني أمام الضغوط تحت وعود سرابية بتحقيق "السلام"، اقتنع المفاوضون الفلسطينيون -وحسنا فعلوا- بضرورة مراجعة سياسية شاملة لمسيرة المفاوضات، على قاعدة أن تكون مفاوضات حقيقية يسودها انسجام مع قرارات الشرعية الدولية بحيث تجبر إسرائيل على وقف كافة الأنشطة "الاستيطانية"، مع وجود الخيار المركّب الأنجع والمتمثل: بإنهاء الانقسام الفلسطيني الفلسطيني، وتعزيز المقاومة الشعبية ضد الاحتلال و"الاستيطان"، والمضي بعيداً في محاربة نظام "الآبارتايد" الإسرائيلي. ولطالما كان ذلك هو موقف الدكتور حيدر. واليوم، أجمع الفلسطينيون على صوابية موقف هذا الرمز الذي طالما رفض المساومة على حقوق شعبه، مؤكداً أن الاستعمار الاستيطاني هو القاتل الفعلي لأية تسوية لأنه "يأكل" أرض فلسطين بنهم متزايد. ومنذ أن قاد الراحل وفد المفاوضات في محطات صعبة، رأى في "الاستيطان" عدوه الرئيسي والحلقة الخبيثة التي ينبغي كسرها حتى تصل المفاوضات إلى الهدف الذي يلبي -في الحد الأدنى- مطالب وحقوق الشعب الفلسطيني وأهداف نضاله الوطنية. لكن، رغم اختلافه، كغيره من المناضلين والوطنيين الفلسطينيين، مع اتفاقات أوسلو ومعارضته إياها، فإن ذلك لم يمنعه من خوض التجربة في ظل هذه "الاتفاقات"، فحاز على ثقة مواطنيه في المجلس التشريعي الفلسطيني الأول... وبأعلى الأصوات. وها نحن نرى اليوم قضية "الاستيطان" تحتل (مع ترسيم "الحدود") صدر الأجندة الدولية المتعلقة بمجمل عملية التسوية في الشرق الأوسط. فالفلسطينيون يربطون استئناف المفاوضات مع إسرائيل بوقف كامل لأنشطتها "الاستيطانية"، في حين تتذرع إسرائيل بأن هذه القضية ليست بالأهمية التي يطرحها الفلسطينيون وأنه يمكن استمرار المفاوضات المباشرة في ظل استمرار "الاستيطان"، محملةً الفلسطينيين مسؤولية توقف المسار التفاوضي. فإسرائيل، القائمة على منطق القوة والعنصرية و"الاستيطان"، تفرض، وعلى مدى عقود عمرها- سياسة الأمر الواقع التي من أبرز سماتها التوسع "الاستيطاني"، حيث تزايدت "المستوطنات" بصورة تكاد تجعل من المحال التوصل إلى الدولة الفلسطينية المنشودة. وفي طليعة الأمور الملموسة على هذا الصعيد حقيقة أن هناك نصف مليون يهودي يقيمون في "مستوطنات" الضفة، بينهم 200 ألف يسكنون في المناطق التي عرّفتها إسرائيل كجزء من "قدسها الموسعة" وضمتها إلى "سيادتها"! رغم ذلك، ورغم حالة الإحباط الشديدة التي تسود أوساط الفلسطينيين، فإن على الجميع، بدءاً من السلطة ومروراً بالفصائل وانتهاءً بمؤسسات المجتمع المدني، بمزيد من التحرك، وهو ما دأب على فعله الدكتور عبد الشافي حتى آخر لحظات عمره؛ مناضلا ضد "الاستيطان" الذي أدرك ببعد نظر أنه سيكون العقبة الكأداء أمام قيام الدولة الفلسطينية، وأن المفاوضات ستصل، لا محالة، إلى طريق مسدود يؤكد خيار إسرائيل: دولة فلسطينية خلف جدار الفصل العنصري، محشورة في معازل بلا موارد، محدودة الحركة، فاقدة للسيادة، مع ضم "التكتلات الاستيطانية لدولة إسرائيل"! لقد باتت منظمات "الاستيطان" الصهيونية جيشاً "يدافع" عن "شعب المستوطنين" داخل الكيان الصهيوني، بل هم الآن يهاجمون ليلا مزارع الفلسطينيين ويقطعون أشجارها ويحرقونها، ويقومون بإعادة المنشآت التي تفككها شرطة الاحتلال في "المستوطنات العشوائية"، إضافة إلى استحداثهم بؤراً "استيطانية" جديدة، سواء برضا سلطات الاحتلال أو "رغما" عنها! وقد لجأوا أيضاً إلى المحكمة العليا الإسرائيلية مطالبين بهدم بيوت فلسطينية في الضفة بدعوى أنها غير "مرخصة" في مقابل تفكيك منشآت البؤر "الاستيطانية" العشوائية! النموذج النضالي، حيدر عبد الشافي، لم يفقد يوماً الإيمان بعدالة قضيته الوطنية، وحتمية إنجاز الاستقلال، وبناء الدولة الوطنية المستقلة وعاصمتها القدس، وبحق شعبه اللاجيئ في العودة إلى دياره. كما لا ننسى نضاله الدؤوب من أجل إصلاح البيت الفلسطيني من الداخل، سواء في منظمة التحرير أم في السلطة الفلسطينية، على درب بناء نظام سياسي ديمقراطي تعددي تسوده العدالة الاجتماعية وتكافؤ الفرص، مع تعزيز النظام وسيادة القانون والشرعية. ونحن عندما نذكر اسم حيدر عبدالشافي اليوم إنما نستحضر تاريخ واسم شعب مناضل: الشعب العربي الفلسطيني، شعب يليق بأبي خالد ويليق به أبو خالد.