في عام 1955 صدرت الترجمة العربية لدراسة إحصائية وسياسية واجتماعية مهمة، حول وضع الأقليات في العالم، وقد جاءت هذه الدراسة في كتاب تحت عنوان "أقليات في خطر"، لمؤلفه تيد روبرت جار. وتكمن أهمية تلك الدراسة في ارتباط موضوعها بما يحدث في العالم العربي والإسلامي حالياً، وهو في تصوري استكمال لسلسلة من المقترحات والخطط التي ظهرت خلال العقود الخمسة الأخيرة. الدراسة لا تتناول الأقليات على أنها جزء من الأمة أو الدولة التي تعيش فيها، وأنه يمكن علاج مشكلاتها في ذلك الإطار، بل تدرسها كجماعات طائفية عرقية نشطة سياسياً، تواجه تبايناً ثقافياً واقتصادياً وسياسياً ودينياً حاداً وجوهرياً بينها وبين الجماعة الأكبر، لكنها مع ذلك قادرة على الوصول الاستقلال بذاتها إذا ما توفرت لها الوسائل والإمكانات، وإذا ما رفعت الوعي الطائفي لدى أفرادها، وكثفت عملها التعبوي نحو الانفصال وقيام دولتها المبتغاة. وتزعم تلك الدراسة -صراحة- أنه يتعين إعطاء الأقليات في العالم العربي استقلالها عن الدولة الوطنية. وتقارن الدراسة بين وضع الأقليات في العالم العربي والإسلامي وبين نظيره في الدول الصناعية الديمقراطية، حيث تتم معاملة الأقليات في الغرب وفق معايير عالمية للحقوق والفرص المتساوية بين كل الأفراد، وحيث تستخدم الأقليات أساليب الاحتجاج بدلاً من التمرد، وحيث تتم الاستجابة لمطالبها غالباً. أما في العالم الإسلامي فتعاني الأقليات من تمييز اقتصادي واجتماعي وثقافي، حيث تفتقر الدول الإسلامية لبرامج ومؤسسات تحقق الاندماج الوطني... وأنه لذلك السبب، ما من حل أمام تلك الأقليات سوى اللجوء إلى القوة، لذلك لابد من دعمها لتحقيق أهدافها في نيل الاستقلال حتى ولو تفتتّ الأوطان التي تعيش فيها. هذا المنهج في المقارنة بين حالتين هو منهج يفتقر للإنصاف، بل هو منهج استهدافي مضلل، يقوده ساسة ومفكرون وتعمل لصالحه مؤسسات ومراكز أبحاث عرفت بتوجهاتها الرامية لاستباحة خارطة المنطقة وجعلها عرضة لخطر التفتيت بصورة دائمة. والواقع أن الفكر العربي والإسلامي يرفض مثل هذه الاتهامات، فالعرب لم يتعاملوا مع وحدة الأمة والأوطان بالأسلوب الذي تطرحه مثل هذه الدراسات، لم يعاملوا غير المسلمين في ديارهم على أنهم مختلفون أو جزء غريب أو طارئ على الأمة، بل كجزء أصيل من النسيج الوطني والحضاري وكعنصر فاعل له دور مهم في نهضة الأوطان وتنميتها. وقد تضمن الإسلام تشريعات وأصولا وقواعد واضحة للتعامل مع غير المسلمين في إطار الأمة التي تمثل جسداً واحداً. ولم يختلف الأمر بين الماضي الحاضر، حيث نجد غالبية الدول العربية والإسلامية حالياً تتعامل مع مختلف الملل والطوائف والأعراق فيها على أنهم مواطنون لا يختلفون عن غيرهم في المواطنة وحقوقها. لكن حين تتحول المطالب الطائفية إلى مطالب انفصالية، فإن الأمر يختلف تماماً، إذ ما من بلد ديمقراطي واحد يمكن أن يتهاون مع أجندات تهدد وحدته الوطنية وسيادته القومية. وغير صحيح أن الأقليات في الدول الغربية لا تعاني، ويكفي للتدليل على ذلك ما يواجهه المسلمون من عنصرية وكراهية في أوروبا، حيث تتم مطالبتهم بالذوبان التام في ثقافة الأغلبية، كما تتم مواجهة احتجاجاتهم بالقوة أحياناً. لذلك أعتقد أنه ينبغي الانتباه عند قراءة مثل هذه الدراسات، والتوقف عند النواة الصلبة لفكرتها الأساسية، لما تحمله من تصورات ونوايا وخطط حول مستقبل هذا الجزء من العالم وما يراد له أن يكون عليه.