"إن أكبر استثمار للمال هو استثماره في بناء أجيال من المتعلمين والمثقفين"، هذه المقولة المأثورة للمغفور له بإذن الله الشيخ زايد بن سلطان آل نهيان، تجسد الرؤية السديدة للقائد الوالد رحمه الله، وتمثل النهج الذي اختاره صاحب السمو الشيخ خليفة بن زايد آل نهيان رئيس الدولة -حفظه الله- في السير على خطى الوالد القائد. وهما الرؤية والنهج اللذان أكدهما تقرير التنمية البشرية الأخير لعام 2010، الصادر عن برنامج الأمم المتحدة الإنمائي منتصف الشهر الجاري في أبوظبي، من خلال إظهاره لاحتلال الإمارات المرتبة الأولى عربيّاً، والـ32 عالميّاً من بين 169 دولة حول العالم على صعيد التنمية البشرية. وهذه المرتبة المتقدمة للدولة جاءت نتيجة جهود حثيثة واستثمارات هائلة في مجال تطوير القوى البشرية، لتلبية احتياجات التنمية في الدولة، ولرفدها بكوادر مواطنة، وجيل مؤهل، وفق أرفع المستويات العلمية، لمواصلة مسيرة البناء والتطوير. إن حجم هذه الجهود وتلك الاستثمارات اتضح بشكل جلي بداية هذا الأسبوع، مع تدشين شركة أبوظبي للخدمات الصحية "صحة" لملتقى الأطباء المقيمين السنوي الثاني لعام 2010، الذي تم من خلاله تخريج 38 طبيباً من مواطني الدولة الذين أكملوا فترة تدريب الإقامة في مستشفيات صحة، ليشكلوا بذلك أول دفعة خريجة من برامج تدريب الإقامة في مستشفياتها. ويهدف هذا اللقاء السنوي، الذي حضره أكثر من 300 مشارك ومتحدث، إلى تكوين منتدى حواري تناقش فيه المواضيع التشغيلية والتنظيمية في جو تفاعلي، وتستعرض من خلاله رؤية شركة "صحة" بالنسبة لمستقبل التعليم الطبي للأطباء المقيمين، وفرص العمل بعد التخرج، ومعايير اختيار الكادر الطبي المقيم، ومخططات هيئة الصحة بأبوظبي لاعتماد برامج تدريب الأطباء. وتأتي هذه المبادرة الأخيرة من شركة "صحة"، في وقت بلغ فيه عدد الأطباء المرخصين من القطاعين الحكومي والخاص في إمارة أبوظبي، حوالي 5 آلاف طبيب، يساعدهم قرابة ثمانية آلاف ممرضة وممرض، وستة آلاف من الفنيين والعاملين في الخدمات الطبية المساندة، يعملون في 1077 منشأة صحية، وتدعمهم 467 صيدلية ومخزن أدوية. وهذا الوضع الحالي، يظهر مدى التطور الهائل الذي شهدته الدولة خلال عقود قليلة. فقبل خمسين عاماً فقط لم يكن هناك مستشفى عام واحد في الدولة، وحتى في بداية عقد السبعينيات كان عدد المستشفيات العامة لا يتخطى السبعة، والآن ترصع إمارات الدولة ومدنها عشرات من المستشفيات الحكومية والخاصة، ومئات من العيادات والمراكز العلاجية. وهذه البنية الصحية الفريدة والمميزة نجحت في تحسين واضح للمؤشرات الصحية المعنية بقياس معدلات الإصابة بالأمراض، ونسب الوفيات، ومتوسط الأعمار. فعلى سبيل المثال، نجد أن متوسط العمر للذكور والإناث في الإمارات أصبح يزيد حاليّاً عن 74 عاماً، بينما تسجل الوفيات بين الأمهات الحوامل معدلاً منخفض جدّاً، وبنسبة 1 في المئة فقط لكل 100 ألف ولادة، حسب إحصائيات منظمة الصحة العالمية. وإن كان ارتفاع متوسط العمر وانخفاض الوفيات بين الأمهات والمواليد الجدد قد ترافق مع ظهور تحديات جديدة للقطاع الصحي في الدولة، تتمثل في ارتفاع مطرد في معدلات الإصابة بالأمراض غير المعدية. وهذه الأمراض، التي ترتبط ارتباطاً وثيقاً بنمط ونوعية الحياة، تشمل السمنة، والسكري، وأمراض القلب والشرايين، وغيرها، حيث تظهر إحصائيات منظمة الصحة العالمية أن معدل انتشار السمنة بين من تخطوا سن الخامسة عشرة، يزيد عن 25 في المئة بين الذكور، و 40 في المئة بين الإناث. وهو ما ينطبق إلى حد كبير على داء السكري، الذي يصيب 20 في المئة من الوافدين، و25 في المئة من المواطنين، أو واحداً من كل أربعة، مما يضع الدولة في المرتبة الثانية بين دول العالم جميعها، على صعيد نسبة انتشار السكري بين السكان. وتمثل أيضاً الوفاة بسبب أمراض الجهاز الدوري أعلى نسبة من جملة الوفيات، حيث تشكل 22 في المئة من جملة أسباب الوفاة، تليها الوفيات بسبب الحوادث والتسمم والعنف بنسبة 19 في المئة، ثم الأورام الخبيثة والأمراض السرطانية بنسبة 9 في المئة، ثم الوفيات بسبب أمراض الجهاز التنفسي بنسبة 7.4 في المئة. ولا شك أن مواجهة هذه التحديات الصحية تتطلب طاقماً طبيّاً مدرباً، وعلى درجة عالية من الكفاءة، يشكل أبناء الدولة من المواطنين عموده الفقري، وهيكله الأساسي. وهو ما عبر عنه، رئيس مجلس الإدارة في شركة صحة، بقوله: "إنني فخور بما حققه هؤلاء الخريجون، حيث سيرسم هؤلاء الشباب الإماراتيون الواعدون مستقبل الدولة، وسيكون لهم دور بارز في مستقبل الرعاية الصحية في أبوظبي ودولة الإمارات العربية المتحدة، فهم رأسمال الوطن، ونحن نهدف من برامج الإقامة التي نديرها في منشآتنا إلى زيادة عدد الأطباء الإماراتيين في الكادر الصحي". إن مثل هذه الاستراتيجية ستشكل إطاراً وأساساً متيناً لتطوير التنمية الصحية من خلال التعليم الطبي المستمر، بينما سيشكل الملتقى السنوي للأطباء المواطنين المقيمين منصة فاعلة لتبادل الأفكار والمقترحات، مما يرفع من المستوى العلمي للأطباء المقيمين، وينشط العامل الاجتماعي والتواصل المستمر بينهم، وهو ما يصب بدوره في النهاية، في نوعية ومستوى الخدمة الصحية المقدمة للمرضى داخل الدولة.