ما يحدث الآن، أو ربما ما يجب أن يحدث على الساحة الفلسطينية، هو نوع من معالجة آثار سنوات المفاوضات، دون أن يعني هذا التخلي فلسطينيّاً بالضرورة عن الاتفاقيات السابقة الموقعة، على رغم أنّ هذه الاتفاقيات نقضت من قبل إسرائيل. وما قد يكون مطلوباً هو نوع من عملية معقدة، تسمى "اللا تفاوض". ربما يكون "اللا تفاوض"، تعبيراً جديداً، على نسق مصطلح شاع عالميّاً، هو"اللا عولمة"، أو بالإنجليزية (DeGlobalization)، وتعني الاتجاه العكسي للعولمة، وهذا المصطلح شاع في السنوات الأخيرة، وخصوصاً بعد الأزمة المالية العالمية، ويعني وجود تراجع في حرية تدفق المعلومات والأموال والناس من مكان إلى آخر وهو أمر يحدث كما يلاحظ كثيرون لأسباب مختلفة. أدت المفاوضات الفلسطينية- الإسرائيلية منذ عام 1991 إلى نتائج مختلفة، من ضمنها تغير نسبي في مرجعيات التسوية السياسية للصراع. فقد أصبحت المفاوضات التي ترعاها الولايات المتحدة الأميركية، هي مرجعية عملية السلام، على حساب القرارات الدولية في الشأن الفلسطيني، وعلى حساب دور المجتمع الدولي، بما فيه الأمم المتحدة، وأدت إلى تفكيك أو إلى تحويل جذري في هياكل وأدوات منظمات العمل الفلسطيني المقاوم، التي حملت أعباء النضال على مدى عقود. أمام مأزق المفاوضات، التي تصر الولايات المتحدة على أنّها السبيل الوحيد للحل، بعيداً عن الأمم المتحدة ووسائل سياسية أخرى، وأمام مأزق التسليم الأميركي للإسرائيليين بحق تحديد الكلمة النهائية لكيفية ومدى جدية التفاوض، وعدم القيام بأي حراك جدي للضغط على إسرائيل، قررت القيادة الفلسطينية أنّه لا يمكن المراهنة أكثر على القناة التفاوضية وعلى المظلة الأميركية، وبدأت تتحرك دوليّاً تتلمس قنوات أخرى. والراهن أن الاعترافات أو الوعود بالاعتراف التي تأتي من قبل دول أميركا اللاتينية وأوروبا هي خطوة ملموسة فيما يمكن تسميته عملية "اللا تفاوض"، أي التحرك لمحو آثار التفاوض، الذي أفشلته إسرائيل ولم تنقذه الولايات المتحدة، وذلك بإعادة التركيز على المرجعيات الدولية للقضية الفلسطينية. فيجري حراك في الأمم المتحدة، ومساعٍ لتفعيل التقارير والقرارات الدولية في الشأن الفلسطيني، فمتابعة تقرير جولدستون الدولي الخاص بأحداث حرب غزة 2008/ 2009، وقرارات المحكمة الدولية بشأن الجدار العازل، وتعزيز اتجاهات مقاطعة إسرائيل عالميّاً على الصعيدين الرسمي والشعبي، جميعها جزء من متطلبات عملية "اللا تفاوض" هذه. والجزء الثاني من عملية "اللا تفاوض"، إضافة للحراك على المستوى الدولي، هو إعادة بعث، أو تكوين أدوات عمل فلسطيني جديدة للتعامل مع متطلبات الحياة والصمود الفلسطيني، في الشتات والوطن، بما يضمن الحفاظ على الهوية الفلسطينية، وإعادة حشد الطاقات والإمكانيات لصياغة أطر عمل فلسطينية فاعلة في مختلف المجالات، وبكلمات أخرى إعادة بناء مؤسسات المجتمع الفلسطيني، التي هي مؤسسات عابرة لدول ومناطق الشتات. والأمر ذاته ينطبق على متطلبات المقاومة، فربما تكون أدوات المواجهة التي استخدمت في أوقات سابقة، حققت بعض الأهداف، وربما يمكن إعادة توظيفها في المستقبل، ولكن متطلبات المرحلة السياسية والبيئة العالمية والإقليمية تؤكد الحاجة إلى دراسة متأنية لأدوات صمود ومقاومة جديدة، من نوع المقاومة الشعبية السلمية، ومن نوع عولمة النضال، بإشراك شعوب العالم وحركاته السلمية المناهضة للتمييز العنصري والاحتلال.