منذ التحولات الكبرى التي لحقت بالنظام الدولي حين انهار الاتحاد السوفييتي وسقط معه النظام ثنائي القطبية الذي كان يتصارع في سياقه مع الولايات المتحدة إيديولوجيّاً وسياسيّاً واقتصاديّاً، ساد في ميدان العلاقات الدولية إحساس بعدم اليقين وعدم القدرة على التنبؤ. وبرز العالم الأحادي القطبية الذي انفردت فيه الولايات المتحدة بالهيمنة على النظام الدولي. ولم تسقط الحرب الباردة فقط بل سقطت معها نماذج معرفية متعددة في العلاقات الدولية وعلم السياسة وعلم الاجتماع، كانت طوال الفترة من 1945 تاريخ نهاية الحرب العالمية الثانية التي امتدت إلى حوالى عام 1990، تحاول وصف العالم وتفسيره. ولو أضفنا إلى ذلك أن إرهاصات العولمة بدأت منذ الثمانينيات، وساعدت على تصاعد موجاتها الثورة الاتصالية الكبرى والتراكمات التاريخية المتعددة، لأدركنا أننا كباحثين في العلم الاجتماعي كنا في حاجة إلى تجديد أطرنا النظرية التي سقطت مع سقوط "النظام القديم" ونعني ما قبل انهيار الاتحاد السوفييتي. وقد أحسست بذلك بعمق حين انتقلت من القاهرة إلى عمان عام 1990 لأكون أمينا ًعامّاً لمنتدى الفكر العربي الذي يرأسه الأمير الحسن بن طلال، والذي أنشأته نخبة مختارة من المثقفين العرب. وأذكر أنني كتبت بحثاً في ذلك الوقت يعبر عن حيرتي النظرية والمنهجية كباحث عنوانه "كيف نفهم العالم؟". وكان إحساسي في ذلك الوقت أننا عاجزون ليس عن تفسير الظواهر العالمية وهو طموح أي باحث علمي، ولكن عن مجرد وصفها وصفاً دقيقاً، نظراً لعمق الانقلابات السياسية والاقتصادية والاجتماعية التي كانت تحدث كل يوم. وحاولت منذ بداية التسعينيات أن أعمق قراءاتي لفهم ملامح هذا العالم الجديد الذي بدأ يكشف عن قسماته الأساسية رويداً رويداً. وقد اكتشفت مبكراً مفهوم العولمة Globalization، واكتشفت أيضاً حركة ما بعد الحداثة التي وجه فلاسفتها النقد العنيف لمشروع الحداثة الغربي الذي قام على أساس الفردية والعقلانية، والاعتماد على العلم والتكنولوجيا، وتبني نظرة خطية Linear في التقدم الإنساني على أساس أن التاريخ يتقدم من مرحلة لأخرى. وقرر عالم الاجتماع الأميركي المعروف "دانيل بيل" في إحدى محاضراته وعنوانها "العودة إلى المقدس" أن "العولمة وصلت إلى منتهاها". وبشر ببزوغ مجتمع جديد لم يستطع أن يطلق عليه اسماً محدداً لغموض ملامحه ولذلك اكتفى بأن أطلق عليه في كتاب شهير له "المجتمع ما بعد الصناعي". وعرفنا فيما بعد ربما بعد حوالى ثلاثين سنة من نشر كتابه أنه كان يشير إلى "مجتمع المعلومات العالمي". ونظراً للازدياد الهائل في الكتابات والبحوث والكتب التي نشرت باللغات المختلفة عن معالم هذا المجتمع الدولي البازغ، أحسست بأنني في حاجة أولاً إلى رسم "خريطة معرفية" Cognitive map لتحديد التغيرات الأساسية التي لحقت بالمجتمع العالمي. ومن ناحية أخرى أدركت أنه بدون رسم هذه الخريطة المعرفية فإننا لا نستطيع أن نعالج بكفاءة الوضع الإقليمي العربي في جوانبه السياسية والاقتصادية والاجتماعية، ولا الوضع المحلي في أية دولة عربية على حدة. وقد بادرت بتجميع مجموعة متكاملة من بحوثي المنشورة عن مختلف التحولات العالمية في كتاب نشر عام 2008 بعنوان "الخريطة المعرفية للمجتمع العالمي" (دار نهضة مصر)، ولم تكن ملامح الخريطة قد اكتملت في ذهني تماماً. ولذلك أصدرت كتاباً آخر عنوانه "شبكة الحضارة المعرفية: من المجتمع الواقعي إلى العالم الافتراضي" عام 2010 (دار نشر ميريت) تضمن باباً كاملاً حددت فيه الملامح الخمسة الرئيسية لخريطة التحولات العالمية. 1 - التغير الأول هو الانتقال من النموذج المعرفي للمجتمع الصناعي إلى النموذج المعرفي لمجتمع المعلومات العالمي. ويمكن القول إن المُنظر الأكبر الذي حدد وحدة التحليل الأساسية لفهم المجتمع الصناعي وهي "السوق" هو"كارل بولاني" في كتابه الرائد الذي نشر عام 1940 "التحول العظيم"، وقرر فيه بوضوح أن السوق الذي ينظم نفسه ذاتيّاً والذي يقوم على آلية العرض والطلب، لا ينبغي أبداً أن يهيمن لا على الدولة ولا على المجتمع. ورفضت توصيات "بولاني"، لأن الرأسمالية كانت في عنفوانها المبدئي تسعى وراء التراكم بأي طريقة، وقد سقط هذا النموذج في الأزمة المالية العالمية التي هي في رأيي أزمة اقتصادية، حين هيمن السوق الرأسمالي الافتراضي في الولايات المتحدة على كل من الدولة والمجتمع! وبهذا المعنى انتقلنا إذن من نموذج المجتمع الصناعي إلى نموذج مجتمع المعلومات العالمي، الذي يعد المنظر الأكبر له هو "كاستلز" أستاذ علم الاجتماع الأميركي بعد أن أخرج موسوعته الشهيرة "عصر المعلومات" التي تتضمن ثلاثة مجلدات هي "المجتمع الشبكي" و"قوة الهوية" و"نهاية الألفية". وقد أنشأ مجتمع المعلومات العالمي مجالاً عامّاً جديداً غير مسبوق في تاريخ الإنسانية يطلق عليه الفضاء السيبيري The Cyber Space في قول، أو الفضاء الافتراضي في قول آخر، الذي تتدفق من خلال شبكة الإنترنت بسرعة هائلة، وتتم فيه التفاعلات الاقتصادية والسياسية والثقافية بين أطراف عالمية شتى. 2 - التغير الثاني: هو الانتقال من الحداثة إلى العولمة وهي ذات تجليات متعددة، كالعولمة السياسية: وشعاراتها الديمقراطية، واحترام حقوق الإنسان، واحترام التعددية. والعولمة الاقتصادية: التي تسعى إلى خلق سوق عالمية ورمزها هو منظمة التجارة العالمية. والعولمة الثقافية: وتعني بروز ثقافة كونية قد تتصادم مع الخصوصيات الثقافية عموماً، ومع الخصوصيات الثقافية العربية الإسلامية خصوصاً. 3 - التغير الثالث: بروز مجتمع المخاطر العالمي Risk Society، وقد صك هذا المفهوم "إيرليشن بيك" عالم الاجتماع الألماني. وهو لا يتحدث فقط عن التلوث بكل أنواعه، الذي جعل المجتمع الإنساني ينتقل من الأمن النسبي إلى الخطر، وذلك لانتشار التلوث وظهور أمراض جديدة تساعد العولمة على نشرها، ولكن عالم الاجتماع البريطاني "أنتوني جدنجز" أضاف إلى مفهوم مجتمع الخطر معاني أخرى مهمة، هي أنه المجتمع الذي تتزايد فيه الفجوة الطبقية بين الأغنياء والفقراء يعد من مجتمعات الخطر، وينطبق هذا على المجتمعات العربية. 4 - التغير الرابع: سقوط النموذج القديم للأمن القومي وبروز نموذج جديد هو الأمن القومي المعلوماتي، وربما كانت أساطيل الحرية التي سعت لفض الحصار على غزة وشارك فيها ناشطون سياسيون يحملون عشرات الجنسيات ويعبرون عن ثقافات مختلفة أحد مظاهر هذا الوعي الكوني العالمي. 5 - والتغير الخامس والأخير هو بروز قيم حضارية جديدة في أنحاء العالم أبرزها "المسح العالمي للقيم" الذي أشرف عليه عالم الاجتماع الأميركي "انجلهارت"، مما يكشف عن بروز وعي كوني جديد. ومن علامات هذا التغير ظواهر القرصنة الإلكترونية وتخريب قواعد البيانات، واستخدام الجماعات الإرهابية لشبكة الإنترنت في التواصل. وهذه باختصار هي معالم الخريطة المعرفية للمجتمع العالمي التي عرضت أهم ملامحها في الندوة التي عقدتها الجمعية العربية للبحوث الاقتصادية في القاهرة بتاريخ 19 ديسمبر تمهيداً لحديثي عن آفاق الاقتصاد العالمي في القرن الحادي والعشرين.