كثيرون تساءلوا عن مبررات فوز قطر بشرف استضافة نهائيات كأس العالم 2022، وكثيرون كتبوا وتحدثوا عن نجاح الفريق القطري في إعداد ملف محكم أبهر الحضور وأقنعهم بجدارته، لكن ما ذكروه جزء من الحقيقة وليس الحقيقة كاملة، نعم كل ما ذكروه صحيح، إذ أجمعت كافة المصادر التي رصدت السباق المونديالي، أن العرض القطري كان مذهلاً وأن الملف المونديالي لقطر كان متفوقاً. لكن الذي غاب عن "الصورة المبهرة"، ما أسميه "الملف الأكبر" لقطر، فقطر لم تفز بالملف المونديالي وحده، هناك جهود طويلة وخطط مسبقة وسياسات واعية، وهناك قبل ذلك، هدف محدد بكل دقة لهذا لإنجاز التاريخي المشرّف، فقطر عندما عزمت على خوض الرهان المونديالي، أعدت للأمر عدته، عبر سياسات وعلاقات وتحالفات بمختلف الأطراف الدولية، وفي سبيل تحقيق الهدف الصعب سعت إلى بذل المساعي الحميدة والوساطات الخيرة بين أطراف النزاعات الملتهبة على الساحتين العربية والدولية، بهدف دعم السلام العالمي، وقد نجحت في نزع فتيل الصراع في أكثر من منطقة. كما لعبت قطر دوراً في مدّ يد العون والمساعدة وإصلاح ذات البين ولمّ الشمل العربي والإسلامي، وأصبحت عاصمتها "الدوحة" مركز استقطاب للمؤتمرات الحوارية بهدف التقارب بين أتباع الأديان والمذاهب والثقافات وتعزيز المشترك الإنساني والديني والأخلاقي. وسياسة قطر الخارجية القائمة على توسيع قاعدة العلاقات، والتقارب مع كافة الأطراف، أهّلتها لدور الوسيط المقبول من كافة الأطراف، وكان من ثمار هذه السياسة أن كسبت قطر مكانة عالية في المصداقية الدولية حتى قيل: حين تتأزم الأمور فإن قطر هي المؤهلة للحل. ولا تكتمل عناصر النجاح القطري إلا إذا ذكرنا أن القيادة القطرية استطاعت تحقيق إصلاحات سياسية واجتماعية وتعليمية وإعلامية واقتصادية شاملة، تغيرت بموجبها البيئة المجتمعية لدولة قطر. فقبل عقد من السنين لم تكن المرأة القطرية تقود السيارة، كانت محاصرة في وسط مثلث الحظر والتحريم: التقاليد، والفتاوى، الاستهجان المجتمعي. كانت المرأة القطرية معزولة عن المشاركة في الحياة العامة، إلا في مجالين محصورين: تدريس البنات، وتطبيب النساء. كان العمل في المجال المختلط ممنوعاً وكان النقاب سائداً، لكن القيادة القطرية استطاعت أن تغير المجتمع القطري وأن تجعله مجتمعاً منفتحاً، يرحب بدور المرأة في المساهمة العامة، فأصبحت القطرية وزيرة، ورئيسة للجامعة وعميدة للكلية وقاضية ومحامية. ويجب أن نقول إن هذا الانفتاح منضبط بالأطر الشرعية ومحكوم بالثوابت، وقد كان للشيخة موزة -حرم أمير دولة قطر- جهود جبارة في تحقيق هذه النقلة المجتمعية، ولا أدلّ على ذلك من وجودها الرائع حين خاطبت أعضاء اللجنة التنفيذية للفيفا بكل ثقة: متى بالنسبة لكم، سيأتي الوقت لكي ينظم الشرق الأوسط كأس العالم؟! لقد شاهد العالم سيدة قطرية خليجية عربية مسلمة، منفتحة على العالم المعاصر وملتزمة بهويتها ودينها، تناقشهم بمنطق العصر وبمقتضيات العدالة. كانت هذه الصورة الجميلة نموذجاً لأداء المرأة العربية المسلمة، مما ساهم في ترسيخ قناعة أعضاء اللجنة بأن قطر دولة حققت فعلاً، التحول والتغيير، لذلك صوّت الـ14 عضواً لصالح قطر ورجحوا كفتها على كفة أميركا التي حصلت على 8 أصوات فقط. ومن هنا فإن ذلك التصويت هو تقدير لمقدرة قطر على التحول الداخلي ولدورها الحيوي في الساحة الدولية، بل شهادة تقدير من المجتمع الدولي لقطر على نجاحاتها الداخلية والخارجية. "الفيفا" اليوم معنية أساساً بتوسيع رقعة الكرة إلى مناطق مختلفة في العالم سعياً لتشجيع التحول والتغير والتقارب بين بني البشر، وهو الهدف الأسمى للرياضة. "الفيفا" معنية بتذويب الفوارق وإزالة الحواجز عن طريق نشر اللعبة، وهذا ما رجح كفة قطر. ويستتبع هذا أن نقول إن تقدير "الفيفا" لقطر يحمل ضمنياً تقديراً لمنظومة مجلس التعاون الخليجي والتي هي أنجح منظومة عربية تستقطب مصالح العالم الحيوية، والتي تعد الأكثر انفتاحاً وعولمة في المنطقة. فهنا يتعايش بشر من 180 جنسية وديناً ومذهباً في سلام ووئام واستقرار، هنا أكثر منطقة آمنة في العالم، على سلامة البشر والاستثمارات، والأكثر ربحية والأقل كلفة للضرائب والرسوم. لعل كل ذلك من دوافع "الفيفا" لاختيار قطر، فتشجيع قطر، تشجيع للآخرين الذين لا زالوا مترددين أمام التحول والتغير نحو الأفضل والأرقى. وأتصور أن قطر في تنظيمها للمونديال لن تجد سنداً وعوناً أفضل من شقيقاتها دول مجلس التعاون، وبخاصة دولة الإمارات ومملكة البحرين، ومن ثمار ذلك زيادة وتدعيم الربط الجوي والبحري والبري بين الأعضاء الثلاثة على مستوى المنشآت والمرافق والخدمات والطرق والجسور والسكك الحديدية والفنادق. فرحة قطر فرحة للجميع، خليجيين وعرباً ومسلمين، وخير قطر يعم المنطقة بأسرها، ونجد تجلياته في تحركات وتنسيقات القادة الخليجيين. ترى كيف استطاعت هذه الدولة، محدودة المساحة والسكان، تحقيق هذا الإنجاز التاريخي؟ وما هي الدروس المستفادة؟ أول الدروس، أن الدول لا تحدد مكانتها ودورها، المساحة وعدد السكان، بل السياسات الناضجة والعلاقات المتوازنة والدور الإنساني الحيوي. وثاني الدروس أن السياسات القائمة على "العقلانية" و"الواقعية" تحقق الإنجازات لشعبها وللآخرين بدلاً من سياسات "المناطحة" و"العنتريات" و"الشعارات"... التي لم تحرر أرضاً ولم تسترد حقاً، بل أورثت شعوبها البؤس والمعاناة. وثالث الدروس أن الإيمان بالله، والثقة بالذات، والنظرة المستقبلية، وتحديد الأهداف، والإرادة القوية والسليمة، وعدم الاستسلام لدعوات التآمر العالمي المزعوم... من أهم مفردات النجاح. ورابع الدروس هو أهمية تأهيل القيادات المواطنة الشابة لإدارة الملفات الساخنة في أوطانها. أما الدرس الخامس والأخير فهو أن تأهيل العنصر النسائي وإدماجه في خطط التنمية من أهم عناصر تغيير صورة مجتمعاتنا في الخارج.