قبل أربعة وثلاثين عاماً كان لي شرف إلقاء أول محاضرة تذكارية يقدمها المعهد الدولي للدراسات الاستراتيجية عن ألاستر بوشان. فقد كان الفقيد صديقاً شخصياً لي، وناقداً في بعض الأحيان، ومصدر إلهام دائماً بالنسبة لي. ويمثل المؤتمر السنوي الذي يقيمه المعهد تخليداً لرؤياه. وفي عام 1967 الذي ألقيت فيه أول محاضرة تذكارية عن "بوشان"، كنت قد اخترت موضوعاً اقتبست فيه إحدى مقولاته: "تحدث التغييرات البنيوية الهيكلية في القوى والنفوذ النسبيين لكبرى الدول. فهناك تغيرات كمية ذات نسب شاملة في الاعتماد المتبادل بين المجتمعات الغربية وفي معدلات الطلب على الموارد الطبيعية. كما طرأت تغيرات نوعية على هموم ومشاغل مجتمعاتنا". ومن ثم أثار "بوشان" السؤال التالي: هل في وسع الدول الصناعية المتقدمة الحفاظ على نمط لحياة مجتمعاتها قادر على تلبية حاجة الأجيال القادمة، ومن خلاله أيضاً يمكن تقديم نموذج لقوة اجتماعية جاذبة للمجتمعات الأخرى أيضاً؟ وحينها كانت إجابتي القاطعة عن السؤال هي: نعم. وكانت التغيرات التي اعتبرها "ألاستير" أساسية في ذلك الوقت، هي المراحل الأولى التمهيدية نسبياً من اتجاه العالم نحو العولمة الاقتصادية، وإلى عالم انتشار السلاح النووي. وعندها كان ثمة خط جيوسياسي أو استراتيجي فاصل في منطقة وسط القارة الأوروبية. أما اليوم، فقد أصبح من المستحيل رسم خط فاصل واحد، بغية إيجاد قاسم مشترك عام لجميع الاضطرابات التي تعم عالمنا المعاصر. وكانت الفكرة الطاغية على المحاضرة التي ألقيتها آنذاك -بصفتي وزيراً للخارجية الأميركية- هي كيفية إدارة الخصام السوفييتي على نحو يحافظ على الاستقرار الدولي، ويوفر الحماية للدول التي تعتمد علينا في أمنها القومي، في الوقت ذاته الذي نحافظ فيه على السلم العالمي. وفي ذلك العام الذي ألقيت فيه محاضرتي عن "بوشان"، كان النفوذ السوفييتي يتوغل بثقل استراتيجي كبير في جنوب القارة الأفريقية. بيد أن الجوهري في تلك الظروف هو تمكن نظام القطبية الثنائية الدولية القائم آنذاك، من منع اندلاع كارثة نووية فتاكة، وصولاً إلى نجاحه في وقت لاحق في السماح بحدوث تغييرات سلمية كبيرة في النظام الدولي. ولك أن تقارن ذلك العالم بما نحن فيه الآن. ففي عالمنا المعاصر هذا، هاجر مركز جاذبية الشؤون الدولية من منطقة المحيط الأطلسي باتجاه المحيطين الهندي والهادئ. وفي الوقت نفسه حققت الوحدة الأوروبية تقدماً كبيراً. كما تسارعت التغيرات في المفهوم المتعلق بالاستخدام الشرعي للسلطة الوطنية، وهو المفهوم الذي برز في مجال العلاقات الدولية منذ تجربة الحربين العظميين. صحيح أن السيادة الوطنية للدول قد تقلصت مع تنامي دور الاتحاد الأوروبي. بيد أن الاتحاد لم يتمكن بعد من غرس هويته الوحدوية عميقاً في وجدان الشعوب الأوروبية. ونتيجة لتقليص مركزية السيادة الوطنية للدول، فقد أصبح بلورة السياسات على نحو يخدم المصالح الوطنية ويسمح باستخدام القوة لتحقيق أهداف استراتيجية بعينها. أما الأهداف العسكرية، فإما تقلصت إلى مهام حفظ السلام أو جرى تضخيمها في مشاريع دولية طموحة، مثل حفز احترام حقوق الإنسان، أو تعزيز البيئة، أو مكافحة الإرهاب الدولي. وكثيراً ما عرّفت المهام العسكرية والتدخلات الأجنبية على أنها شكل من أشكال العمل الاجتماعي. ويذكر في هذا الصدد أن الحروب الخارجية التي انخرطت فيها الولايات المتحدة الأميركية خلال العقدين الماضيين أصبحت مثيرة لجدل واسع النطاق، بينما تمزق بسببها الإجماع القومي. وبالنتيجة فقد برزت تباينات أساسية في المشهد الاستراتيجي المعاصر. وبينما وصف أحد وزراء خارجية الاتحاد الأوروبي، الولايات المتحدة بأنها قوة عظمى مفرطة، فقد نشأت في عالم اليوم تحديات كبيرة أمام النظام الدولي الحالي القائم على الترتيبات والتسويات الغربية لسيادة الدول. ومن هذه التحديات ما استعصى لجمه كثيراً من قبل النظام الدولي الحالي: بروز الإسلام الراديكالي. فبحكم طبيعته العابرة لحدود الدول، يرفض هذا التيار المفاهيم الراسخة عن السيادة الوطنية، في معرض سعيه لإقامة نظام واسع يضم العالم الإسلامي بأسره. صعود الهويات الوطنية كما يسود مفهوم مختلف عن الاستراتيجية في آسيا، حيث يزداد صعود دول كبرى ذات ثقة عالية بهويتها الوطنية، ولم يعد فيها مصطلح "المصالح الوطنية" مثيراً لأي حرج كان. فعلى سبيل المثال، أعلنت الصين عن حزمة من "المصالح الأساسية" غير القابلة للتفاوض أو المساومة عليها، متبوعة باستعداد للذود عنها عسكرياً إذا ما دعت الضرورة. وعلى الرغم من أن الهند لم تفصح عن مصالحها الوطنية بذات الصراحة الصينية، بيد أن لها -بحكم ما تنسبه لنفسها من حيوية لدورها الإقليمي- سعة في التحليل الاستراتيجي تبدو أكثر قرباً مما كانت عليه أوروبا في بدايات القرن العشرين، مقارنة بسلوكيات الاتحاد الأوروبي في قرننا الحادي والعشرين. وفي الوقت ذاته شمّرت فيتنام عن ساعد الجد في إعادة تعريف مصالحها الوطنية. وفي مثل هذه الظروف، فإن هناك صعوبة كبيرة في تطبيق المفهوم التقليدي الكلاسيكي عن الأمن الجماعي الدولي. ذلك أن التجربة العملية في عالم اليوم، في مصداقية الاعتقاد الكلاسيكي السائد بوجود مصالح مشتركة لجميع الدول في الحفاظ على السلم العالمي، وكذلك القول بأن في وسع نظام دولي قائم على الفهم المشترك بين الدول، تعبئة واستقطاب جهود المجتمع الدولي عبر مؤسساته نيابة عن الدول. فالحقيقة أن الأطراف المشاركة في النظام الدولي المعاصر، من الاختلاف وتباين الآراء والمواقف إلى درجة لا تسمح بتوفير ما يكفي من اتفاق العزم والهويات على إقامة نظام أمني دولي جماعي فاعل في تصديه للكثير من القضايا الرئيسية، بما فيها المتعلقة بالانتشار النووي. آراء متباينة والحقيقة أن مسألة الانتشار النووي نفسها تعتبر مثالاً جيداً على مدى تباين الآراء والمواقف بشأن القضايا الأمنية. فالولايات المتحدة والدول المحالفة لها تنظر إلى مسألة الانتشار النووي على أنها معضلة فنية، وتقترح من الوسائل ما يساعد على درء خطرها، بينما تعرض حزمة من العقوبات الدولية، ترياقاً واقياً من خطرها. بيد أن لدول أخرى مثل كوريا الشمالية وإيران وجاراتها منظوراً أكثر نزعة سياسية وجيواستراتيجية للانتشار النووي. ولا شك أن مثل هذه الدول تشاطرنا الاعتقاد نفسه في أهمية درء خطر الأسلحة النووية، حين يتعلق الأمر بأمنها الإقليمي. فعلى سبيل المثال لا يمكن للصين أن ترغب بوجود كوريا شمالية أو يابان مسلحة نووياً قرب حدودها. وفي المقابل تخشى روسيا كثيراً من العواقب الداخلية التي يمكن أن تترتب عن أي مواجهة مسلحة مع المناطق الإسلامية. وينطبق التحليل نفسه على الانتشار النووي الإيراني، حيث تقتصر مواقف الصين وروسيا على مساندة إجراءات دولية لا تؤثر على مصالحهما وعلاقاتهما التجارية مع طهران. تقويض ذاتي وبهذا المعنى يمكن القول إن الأمن الدولي الجماعي قد بدأ بتقويض نظامه ذاتياً. والدليل أن عقداً كاملاً من المفاوضات المدعومة من قبل الأمم المتحدة مع كوريا الشمالية وإيران لم يسفر عن شيء حتى الآن، ولم يساعد في إنهاء أي من البرامج النووية للدولتين. بل إن المفاوضات نفسها أصبحت وسيلة تستغلها قوى الانتشار النووي لكسب المزيد من الوقت والمراوغة لا أكثر. بيد أن الوقت ليس محايداً. فسوف يأتي وقت يتعين فيه على النظام الدولي اتخاذ إجراءات حاسمة أو الاستسلام لعالم يسوده الانتشار النووي. وفيما لو سلمنا بالخيار الثاني، فسوف يتحتم علينا التعامل مع ما سوف يكون عليه عالم كهذا، وكيف يتمكن من تنظيم نفسه نووياً، وبأي الكيفيات ينشئ نظام ردعه النووي ويدير حروبه المستقبلية. وفي مثل هذه الظروف، هل تسمح القوى النووية التقليدية بالتبادل النووي، حتى وإن لم تكن طرفاً مباشراً في هذا التداول؟ آمل ألا يستدعي تخصيص مؤتمر لمناقشة هذا الأمر يعقده المعهد الدولي للدراسات الاستراتيجية بعد نحو عامين من الآن. عقبة أمام "النظام ثم هناك عقبة أخرى أمام النظام الأمني الدولي الجماعي، تتمثل في عدم ملاءمة نظم الأسلحة الأشد فتكاً وتدميراً القائمة اليوم، للمهام التي خصصت لها إلى حد ما. فقد طورت القوتان النوويتان العظميان، روسيا والولايات المتحدة الأميركية، نظماً دفاعية استراتيجية باهظة التكلفة وغير ملائمة في الوقت ذاته للتحديات العسكرية التي يواجهها النظام الدولي اليوم. ذلك أنه لم يجر حتى مجرد التفكير في استخدام تلك الأسلحة الاستراتيجية النووية في أي من الحروب التي دارت منذ نهاية الحرب العالمية الثانية وإلى اليوم. وخلال فترة الحرب الباردة، تبادلت كل من واشنطن وموسكو المواجهات بينهما عبر سلسلة من حروب الوكالة التي دارت في كل من كوريا وفيتنام وأنجولا ومنطقة أميركا اللاتينية. واستخدمت كلتاهما في هذه الحروب الأسلحة والجيوش التقليدية والقوتين البحرية والجوية. وبينما كان النفوذ الاستراتيجي العسكري يتركز في عاصمتي القوتين النوويتين العظميين في تلك الفترة، كانت المواجهات الرئيسية بينهما تدور في مناطق بعيدة جداً عنهما، مثل دلتا نهر ميكونج، وإنشون، والسلفادور، ولوندانا..وغيرها. وهكذا أسفر عن عدم تناسب تلك الترسانات الدفاعية الاستراتيجية التي طورتها القوتان مع الأهداف الدفاعية والأمنية والسياسية التي طورت من أجلها، نشوء انطباع واهم بالجبروت الكلي الذي لا يقهر لهاتين القوتين، سرعان ما بدده التطور اللاحق الفعلي للأحداث الدولية. وعليه فقد تقلصت الهيمنة المفرطة الأميركية بتأثير عدد من العوامل الموضوعية. أولها خوض أميركا لثلاث حروب متتالية، أسفرت عن عواقب داخلية كبيرة، في كل من فيتنام، فالعراق، ثم أفغانستان. بيد أن هذا النمط من التدخلات والحروب الخارجية سوف ينتهي في المستقبل. فالمرجح أن يصر الجمهور الأميركي على وضوح الأهداف التي تشن من أجلها الحروب والغزوات الخارجية. وسوف يسود الإصرار على أن المخاطرة بشن أي عدوان خارجي يجب أن تقوم على أساس أهداف محددة ملموسة، وليس بدعوى أهداف مثالية مجردة مثل "بناء الأمة" و"استراتيجية الخروج" وغيرهما. المتغير الاقتصادي أما العامل الثاني الذي يحد من الهيمنة الأميركية المفرطة، فيتلخص في تعاظم تأثير الظروف الاقتصادية في كل من أميركا ودول الحلف الأطلسي على الميزانيات الدفاعية والعسكرية، وتؤدي إلى تقليصها حتماً. ويعني ذلك تقليص نطاق التدخلات الخارجية، ووضع أولويات مختلفة للإنفاق الحكومي في جميع دول الحلف الأطلسي. وفي الوقت نفسه تظل أميركا القوة الوحيدة الضاربة في عالم اليوم. وعلى رغم التقلص المتوقع لنطاق تدخلها الأحادي، فهي تظل قوة لا غنى عنها لأي ترتيبات تتعلق بإقامة نظام أمن دولي جماعي. ولكن لم تعد واشنطن في وضع يمكنها من ممارسة هيمنتها السابقة على العالم. وهذا ما يطالبها بممارسة فن القيادة، ليس بمعنى الانفراد بزمام القيادة، وإنما باعتبارها دولة قيادية تمثل جزءاً من عالم معاصر شديد التعقيد. ويتعين عليها في هذا السياق تحمل مسؤولية مشتركة إزاء النظام الدولي مع مراكز القوى الجديدة الناشئة، حتى لا تقع ضحية لما وصفه المؤرخ بول كنيدي بـ"الاستنزاف الإمبريالي". وهناك من المراقبين من تنبأ بنشوء عالم للقطبية المتعددة، تتمكن فيه القوى الإقليمية ذات النفوذ مثل روسيا والصين والهند والبرازيل أو تركيا من استقطاب الدول الصغيرة المجاورة لها، ومن ثم تشكيل تكتلات قوى إقليمية، تستطيع بواسطتها تحقيق نوع من توازن القوى الدولي فيما بينها. ولكني لا أعتقد أن في وسع تكتلات قوى كهذه أن تنجح في تجزئة النظام الدولي وتقليصه إلى نظام للهيمنة الإقليمية. ولا شك أن الولايات المتحدة دولة باسيفكية، لا يمكن عزلها عن منطقة شرقي آسيا، مثلما لا يمكن عزل الصين ولا الهند عن منطقة الشرق الأوسط والمناطق الأخرى الغنية بالموارد الطبيعية. العالم "اللاقطبي" ومن جانب آخر، سكّ "نيال فيرجسون" مصطلح "العالم اللاقطبي"، الذي يرسم تصوراً عن عالم تتخلى فيه الولايات المتحدة عن هيمنتها الدولية تدريجياً بسبب استنزاف قواها ومواردها في هذا الدور. وحسب التصور، فلن تسد أي دولة الفراغ الذي تتركه أميركا في النظام الدولي هذا. ووفقاً لـ"فيرجسون" فسوف تسلط الصين جهودها لتعزيز استقرارها الداخلي وهي تمضي قدماً في تحديث مجتمعاتها، بدلاً من تحمل التزامات دولية واسعة النطاق. أما أوروبا، فيرجح لها أن تتأثر وتنشغل كثيراً بانحسارها الديموغرافي بعيد المدى. وفي ظل غياب حارس للنظام الدولي، فإن من المتوقع للصراعات الدينية، والنزاعات الداخلية المحلية، واللاعبين غير الحكوميين، مثل تنظيم "القاعدة" أن تتسنم ظهر العالم وتمتطيه. فراغ ثم فوضى ومثلما جرى في القول المأثور "الطبيعة تبغض الفراغ"، فذلك هو شأن النظام الدولي. فحين تبدأ الفوضى، فإنها سوف تنتهي حتماً سواء طال الوقت أم قصر، إلى إنشاء نظام دولي جديد تحكمه قوانين الفوضى وحدها. وهذا ما يطالب القيادات الحاكمة بفعل ما يجب عليها فعله لحماية البشرية كلها من آلام ومعاناة لا وصف لهما. ولعل الوقت قد حان للتفكير في نهج وظيفي للتعامل مع قضايا النظام الدولي. ذلك أن الاتحاد الأوروبي لم ينشأ في نهاية الأمر -في ظل غياب هيكل سياسي- إلا بسبب نشوء كيانات وظيفية قربت بين الدول ذات المصالح المشتركة فيما بينها، وجعلت منها كياناً موحداً هو السوق الأوروبية المشتركة للفحم والحديد- الذي كان خطوة ضرورية في ذلك الوقت. وعليه نثير السؤال: هل باستطاعتنا إنشاء نهج وظيفي بحيث يكون أوسع من الكيانات الإقليمية وأقل من الأسس التي يقوم عليها النظام العالمي، ويكون فيه الدور الأكبر للدول الأكثر تأثراً باضطرابات الوضع الدولي الحالي؟ في الإجابة عن هذا السؤال، تعد أفغانستان حالة مناسبة تماماً لمناقشة ما نحن بصدده. فهناك ليس ثمة مصلحة واحدة لأي من الدول التي تربطها مصالح استراتيجية أو علاقات إقليمية بأفغانستان، أن تحرز حركة "طالبان" نصراً في الحرب الجارية، أو أن يعود تنظيم "القاعدة" ليصبح دولة داخل الدولة في كابل، أو أن تتمزق أفغانستان إلى أشلاء عرقية بين القبائل البشتونية وغير البشتونية. وحتى إيران -الدولة ذات النظام الشيعي- ينبغي عليها أن تحول دون عودة نظام حكم أصولي معادٍ للشيعة إلى العاصمة كابول. أما بالنسبة لباكستان، فإن من شأن الصعود السياسي للمتطرفين الإسلاميين في الجوار مباشرةً أن يزعزع الاستقرار السياسي لإسلام أباد نفسها. وللهند كامل المصلحة في تفادي اشتعال نيران التطرف الإسلامي أو إحراز المتطرفين لأي نصر سياسي في الجارة كابول. وفيما لو تمكنت العناصر البشتونية المتطرفة من الصعود إلى سدة الحكم مجدداً في أفغانستان، فإن من شأن ذلك أن يزعزع استقرار الجمهوريات السوفييتية السابقة مثل أوزبكستان وطاجسكتان، بسبب النزاعات العرقية التي سوف يسببها الصعود السياسي البشتوني في كابول. وبالمثل فإن صعود التطرف الإسلامي في سينكيانج أن يحدد بعضاً من المصالح الوطنية المستقبلية للصين. التجربة الأفغانية ولكل هذه الدول مصلحة أكبر مما للولايات المتحدة الأميركية في استقرار أفغانستان وتماسكها الداخلي. وفي الوقت الحالي، فقد جرى تفسير الدور الذي تقوم به الولايات المتحدة في أفغانستان لعامة الأميركيين، على أنه يمثل جزءاً من حماية المصالح القومية الأميركية. وقد حظي هذا التفسير بالقبول والرضا من جانب الأطراف الإقليمية ذات العلاقة بأفغانستان، نظراً لعلم هذه الأطراف بأنه ليس للولايات المتحدة أي نوايا لاستدامة وجودها العسكري في أفغانستان. بيد أنه ليس في وسع الدور الأحادي -في الأساس- الذي تقوم به أميركا هناك، أن يوفر حلاً بعيد المدى للمعضلة الأفغانية. ولا بد لحل كهذا أن يأتي من ائتلاف من الدول التي تحدد وتحمي ثم تضمن تحقيق الأهداف المرجوة لهذه الدولة. ويتعين على واشنطن أن تلعب دوراً محافظاً -وليس مركزياً مسيطراً- على هذا الجهد التحالفي الدولي. وعلى صعيد آخر، فإن علاقات واشنطن بالصين ربما تكون عنصراً حيوياً في إنشاء نهج وظيفي كهذا، وفي النظام الدولي عموماً. وربما تعتمد على العلاقة بين الدولتين، آفاق مستقبل السلم والنظام العالميين. هذا وقد عقد كثير من الكتاب والمحللين مقارنات بين صعود الصين باعتبارها قوة عظمى، وما يرتبط بذلك من احتمال شدة التنافس بينها والولايات المتحدة الأميركية في عصرنا الحالي، وما كان عليه صعود الدور الألماني في أوروبا قبل مئة عام مضت، حين كانت بريطانيا العظمى القوة الدولية الوحيدة المهيمنة، ولكنها عجزت رغم ذلك عن لجم جموح ألمانيا وضمها إلى نفوذها. وبالمقارنة، فإن الحالة الصينية تعتبر أكثر تعقيداً، لكونها ليست مسألة إلحاق دولة للأمة في كيان سياسي عام على الطريقة الأوروبية، وتحقيق تكاملها فيه، إنما تنطوي الحالة الصينية على صعوبات وتحديات التعامل مع قوة قارية صاعدة النفوذ. والحق أن صعود الصين تصحبه تغيرات اجتماعية اقتصادية ضخمة، يتضمن خلخلة داخلية في بعض الأحيان. وعليه، فسوف تظل قدرة الصين على الاستمرار في صعودها الإقليمي الدولي، جنباً إلى جنب قدرتها على إحداث التحولات الداخلية الخاصة بها، أحد الأسئلة المحورية الكبرى لعصرنا الحالي. السيناريو الألماني هذا ولا تمثل زيادة المشاركة الشعبية العامة طريقاً حتمياً مؤدياً للتصالح العالمي كما يعتقد البعض في كثير من الأحيان. ولنذكر بهذه المناسبة أن ألمانيا كانت قبل قرن مضى قد سمحت تدريجياً بإطلاق مزيد من حريات التعبير والصحافة. بيد أن فضاءات هذه الحرية العامة، سرعان ما ترددت فيها جوقة من الأصوات، بما فيها تلك التي عبرت عن نزعات وطنية شوفينية، أصرت على تبني ألمانيا لسياسات خارجية أشد تأكيداً واعتداداً بالذات الألمانية. وعلى القادة الغربيين أن يضعوا هذه الحقيقة التاريخية نصب أعينهم وهم يراقبون وينتقدون سياسات الصين الداخلية. وليست هذه مناسبة لاستعراض أو مراجعة العلاقات الأميركية-الصينية. غير أني أود الإشارة إلى نقطة عامة واحدة. فكلتا الدولتين -أميركا والصين- تمثلان نماذج لدول أقل وطنية بالمعنى الأوروبي للكلمة، من كونهما تعبيراً عن هويات قارية ثقافية أوسع نطاقاً. فليست لأيهما تجربة بذاك الحجم والقدر في علاقات التعاون الندي مع الشركاء الإقليميين أو الدوليين. ومع ذلك، فإنه ليس لقادة كليهما من مهمة أسمى ولا أكثر أهمية من الالتزام بحقيقة أنه ليس في وسع أيهما فرض سيطرته على الآخر، وأن من شأن نشوب أي نزاع بينهما أن يستنزف مجتمعاتهما، إضافة إلى تقويض أي آفاق محتملة للسلم العالمي. وفي التزام كهذا قمة الواقعية السياسية. ولهذا السبب، فإن تحقيقه يتطلب توفير إطار للتعاون المستمر بينهما في القضايا الأساسية، وليس الحوار المستمر بشأن الأزمات قصيرة المدى. --------- ينشر بترتيب خاص مع "تريبيون ميديا سيرفيزس"