في المستقبل البعيد، أو ربما حتى القريب، ستمكننا تطبيقات الهندسة الوراثية من خلال الأغذية المعدلة وراثيّاً من إنتاج أطعمة تحتوي في مكوناتها على عقاقير وأدوية طبية أنتجت داخل النباتات، أو زراعة نبات موز يحتوي على تطعيمات طبية طبيعية ضد بعض الأمراض المعدية مثل التهاب الكبد الفيروسي (ب)، أو تربية أسماك حسنت العمليات الحيوية داخلها، بشكل يسرع من تكاثرها ونموها ونضجها، أو غرس أشجار فواكه ومكسرات، تبلغ مرحلة النضج وتطرح ثمارها في جزء بسيط من الوقت الذي تحتاجه أشجار الفواكه الحالية، وربما حتى الحصول على أطعمة لا تحتوي على مسببات الحساسية، أو يمكن إنتاج أنواع جديدة من البلاستيك. وهذه الوعود المستقبلية يمكن أن نضيفها إلى الوعود الأساسية للشركات المنتجة للأغذية المعدلة وراثيّاً، التي تضمنت خفض أسعار الغذاء، ورفع قيمته الصحية، وإطاله فترة صلاحيته. وضمن هذه الوعود القديمة والحديثة، يظل الوعد بزيادة عائد المحاصيل الزراعية من خلال التعديل الوراثي للنباتات -بهدف مد العالم باحتياجاته المتزايدة من الغذاء نتيجة تزايد عدد سكانه المستمر- هو الوعد الأهم على الإطلاق في الجدل الدائر حول جدوى الأغذية المعدلة وراثيّاً، وحول تبعاتها الصحية والبيئية. ويمكننا إدراك أهمية وجوانب هذا الوعد بسهولة إذا ما وضعنا في الاعتبار أنه منذ ظهور الإنسان قبل مائتي ألف عام تقريباً وحتى بداية القرن العشرين كان عدد أفراد الجنس البشري لا يتخطى مليار نسمة فقط. ولكن مع حلول عام 1927 وصل التعداد البشري إلى مليارين، أي أن الجنس البشري في أقل من ثلاثة عقود قد نجح في مضاعفة عدد أفراده. واستمرت هذه الزيادة لتصل إلى ثلاثة مليارات عام 1959، ثم أربعة مليارات عام 1974، ثم خمسة مليارات عام 1986، ثم ستة مليارات عام 1999، لتصل عام 2007 إلى 6.6 مليار. وهو ما يعني أن الجنس البشري نجح خلال مئة عام فقط في مضاعفة عدد أفراده بمقدار ستة أضعاف إلى ستة مليارات، مقارنة بالمليار الأول الذي استغرق أسلافه مائتي ألف عام للوصول إليه. وهذا الانفجار السكاني البشري الحالي المتوقع ازدياده باطراد خلال العقود القادمة أصبحت المصادر الطبيعية عاجزة عن مده باحتياجاته الغذائية بشكل كافٍ، ولعدة أسباب. وأهم هذه الأسباب هو أن 89 في المئة من المياه الموجودة على سطح كوكب الأرض مياه غير صالحة للشرب أو الزراعة، أما جزء المياه العذبة الباقي فيتواجد أكثر من ثلثيه في شكل متجمد في القطبين الشمالي والجنوبي. ولذا يتوفر، في النهاية، واحد في المئة فقط من المياه الموجودة على سطح كوكبنا للاستخدام البشري. وهذا يترجم عمليّاً إلى شح حاد في العديد من مناطق العالم في المياه العذبة، مما يهدد قطاع الزراعة والأمن الغذائي في هذه المناطق بشكل خطير، وينذر بصراعات مسلحة في المستقبل القريب، وهو ما يتمثل في نقص الكفاية الغذائية، وينتج عنه تكرار وقوع المجاعات في العديد من مناطق العالم بين الحين والآخر. وحتى في المناطق التي لا تتعرض لمجاعات شهدت السنوات الأخيرة ارتفاعاً مطرداً في أسعار الغذاء، بسبب ديناميكيات وقوى قوانين العرض والطلب. ولهدف زيادة عائد الحصاد من المحاصيل الزراعية تعتمد الشركات المنتجة للأغذية المعدلة وراثيّاً على حماية هذه المحاصيل ضد أمراض النباتات الناتجة عن الحشرات أو الفيروسات، وزيادة تحملها لمبيدات الحشرات والحشائش. وعلى سبيل المثال يمكن زيادة قدرة المحصول على مقاومة الحشرات من خلال دمج مادته الوراثية مع جين مأخوذ من المادة الوراثية لنوع خاص من البكتيريا مسؤول عن إنتاج سموم تمنع الحشرات من التهام النبات، وفي الوقت نفسه لا تشكل خطراً على الإنسان. وهذا الأسلوب أظهر بالفعل أن النباتات التي دمج هذا الجين في مادتها الوراثية أصبحت لا تحتاج إلى مبيدات حشرات لوقايتها، أو أصبحت تتطلب كميات أقل. وعلى المنوال نفسه يتم تعديل المادة الوراثية للنباتات من خلال دمج جينات من كائنات حية أخرى بشكل يسمح لتلك النباتات بمقاومة الأمراض التي تنتج عن العدوى بالفيروسات، أو يمنحها قدرة أكبر على تحمل تركيزات مرتفعة من المواد الكيميائية المستخدمة لإبادة الحشائش والنباتات الطفيلية الأخرى. ويتم تطبيق استراتيجية مماثلة في تغيير المادة الوراثية للمحاصيل بشكل يسمح بزيادة قدرتها على تحمل درجات أعلى من ملوحة التربة أو يسمح لها بالنمو والازدهار حتى لو لم تتوفر كميات كافية من الماء العذب. إن كل هذه الآمال المعقودة على الأغذية المعدلة وراثيّاً دائماً ما نمت وترعرعت تحت سحابة من الشكوك في تأثيراتها البيئية والصحية، وخصوصاً التأثيرات بعيدة المدى. ولكن على ما يبدو في ظل الزيادة السكانية البشرية المستمرة، وشح المتوفر من المياه العذبة، والنقص الغذائي المزمن في بعض مناطق العالم، لن يحظى الجنس البشري برفاهية الاختيار. وربما كان أفضل تشبيه لشكل العلاقة المستقبلية بين البشر وبين النباتات المعدلة وراثيّاً هو علاقته الحالية بالطاقة النووية، المعروف عنها خطورتها، وفداحة التلوث الناتج عن نفاياتها. ولكن في ظل التغيرات المناخية الناتجة عن استخدام الوقود الأحفوري ستصبح الطاقة النووية، مثلها مثل الأغذية المعدلة وراثيّاً، خياراً لا مفر منه للجنس البشري إذا ما رغب في الحفاظ على مستوى المعيشة والرفاهية اللذين حققهما خلال رحلته التي امتدت لأكثر من مائتي ألف عام.