لا تثير مجموعة الوثائق الهائلة التي سربها موقع ويكيليكس حتى الآن اهتماماً يذكر بسبب محتوى الوثائق المتسربة، خاصةً وأن ذلك المحتوى أصبح بديهياً ومعلوماً للجميع، أو على الأقل يمكن لكل مراقب السياسات الخارجية الأميركية والعلاقات الدولية أن يتنبأ به. وكذلك لا قيمة تذكر للدوافع التي تفسر الحرص على جمع كل هذه المعلومات و"النميمة" الدبلوماسية. لكن لابد أن يكون جمع هذه المعلومات قد شكل عبئاً ثقيلاً على نظام الاتصالات بوزارة الخارجية، وشل قدرته التحليلية على نحو لم يشهده هذا النظام منذ أن أنشئ في عهد إدارة بوش، لتحقيق هدف مركزية المعلومات. فما هي أهمية هذا النظام المركزي للمعلومات يا ترى؟ على الأرجح أن مرده اعتقاد الحكومة الأميركية بضرورة أن تتوفر للعاصمة واشنطن دي سي معلومات استخبارية شاملة ومكثفة عن أنشطة أعداء أميركا الإرهابيين حتى يمكن اتقاء شرهم وهجماتهم المحتملة على المصالح القومية في الخارج والداخل. تتبع ذلك جهود السيطرة على نشاط الأعداء المحتملين بمختلف أشكالهم ومسمياتهم. وتشمل قائمة هؤلاء، دولاً وقوى إقليمية ودولية معادية، لاسيما بعض الدول الإسلامية الصغيرة التي تنظر إليها واشنطن على أنها تظل عرضة دائماً لخطر التطرف الإسلامي، وبالنتيجة فإنه يسهل اختراقها واستغلالها لصالح خدمة أجندة الإسلاميين المتطرفين. وفيما يبدو أن مسؤولي واشنطن قد أخذوا على محمل الجد ما جاء به هنتنجتون من تنبؤ بنشوب حرب محتملة بين الحضارات. وفي تبني مسؤولي واشنطن لنظرية صراع الحضارات هذه، قدر كبير من انعدام المسؤولية والتحيز، تماماً كما هي النظرية نفسها. لكن ما هي سياسات واشنطن الخارجية التي قصد من إنشاء نظام المعلومات المركزي المذكور حمايتها وتعزيزها في الأساس؟ كما نعلم، فقد أعيد تشكيل سياسات أميركا الخارجية في ظل إدارة بوش، ابتداءً من "الحرب العالمية على الإرهاب". وكانت الحرب على العراق هي العنصر الطاغي على سياسات واشنطن الخارجية، وربما تعود لتهيمن عليها ثانيةً. وماذا تكون هذه السياسات إذا ما استثنينا الحرب على العراق وهوس إسرائيل بالنووي الإيراني؟ في الإجابة يجب القول إن ما سربه موقع ويكيليكس هو تماماً فراغ محتوى ما كان يتبادله الدبلوماسيون الأميركيون ويرفعون التقارير بشأنه. فليس ثمة هدف أو استراتيجية خارجية متماسكة حوتها تلك البرقيات الدبلوماسية التي سربها موقع ويكيليكس. ولنستعير هنا تعليقاً للقائد البريطاني الأسبق تشرشل في وصفه لطبق حلويات قدم له عقب تناوله وجبة العشاء، وقد قال فيه: "إن هذه الحلوى لا فكرة فيها ولا طعم... فلتعيدوها إلى حيث كانت". وكذا حال السياسات الخارجية الأميركية، فهي لا فكرة وراءها ولا طعم ولا رائحة. وكما نعلم، فقد كانت المهام الرئيسية الثلاث التي حددها بيان الاستراتيجية الدفاعية لإدارة بوش السابقة هي: أولا شن حرب عالمية على أيديولوجية التطرف الإسلامي. تليها المهمة الثانية المتمثلة في التصدي لسعي الدول المارقة للحصول على الأسلحة النووية. يجدر بالذكر أن دولاً مثل الهند وباكستان تمكنت من تطوير أسلحتها النووية سراً واختبارها تحت سمع وعلم واشنطن، لكنها غضت الطرف عن أنشطتها السرية هذه بدعوى أنها دول صديقة لأميركا، وإن كانت واشنطن قد غيرت موقفها لاحقاً من إسلام آباد. أما المهمة الاستراتيجية الثالثة والأخيرة فهي مواجهة الصعود العسكري للدول الأخرى. ويذكر أن هذه المقتطفات من بيان الاستراتيجية الدفاعية الأميركية مأخوذة من وثيقة "استراتيجية الدفاع القومي" لعام 2008 وقد تم استبدالها ببيان استراتيجية دفاعية جديدة في ظل إدارة أوباما الحالية. فبدلاً من المهام الدفاعية الثلاث المذكورة آنفاً، صدرت تعليمات جديدة للبنتاجون بـ"الاستثمار في بناء جيش أميركي قوي، حسن التدريب والعتاد الحربي، حتى يكون قادراً على خوض حروب الأمة والفوز بها". وكان أوباما قد صرح في الأسبوع الماضي قائلا إن أهم هدف للقوات الأميركية في أفغانستان هو هزيمة تنظيم "القاعدة". لكن ماذا يعني ذلك؟ هل يقصد أوباما إرغام ابن لادن والملا عمر على رفع الأعلام البيضاء والحضور بها إلى مدخل القصر الرئاسي في كابول، أم يقصد تشييد مبنى ضخم عملاق للسفارة الأميركية في كابول، على طراز سفارة بلاده في العراق حسب ما هو مقرر سلفاً؟ على واشنطن أن تدرك أن كثافة أفغانستان السكانية تقدر بنحو 31 مليون نسمة، تمثل قبائل البشتون نسبة 38 في المئة منها، وهي ذات ميول واضحة إلى جانب حركة "طالبان"، وهي تبدي استعداداً للقتال في صفوفها ضد الأميركيين. والسؤال: كيف يمكن لهؤلاء أن يستسلموا أو يرفعوا الأعلام البيضاء انكساراً أمام الجنرال بترايوس؟ إن ما فعلته تسريبات ويكيليكس للأميركيين وغيرهم هو كشفها عن بطلان نوازع الهيمنة ومطامع القوة الأميركيين. وكثيراً ما تخفي واشنطن هذه النوايا عن مواطنيها وعن الجمهور العالمي، بإلباسها ثياب المهمة الدفاعية الهادفة إلى نشر الديمقراطية وقيم الحرية على نطاق العالم كله. لكنها لم تنشر سوى الفوضى والدمار في جنوب آسيا ووسطها وفي منطقة الشرق الأوسط وغيرها. ومن المرجح أن يستمر تراجع صورة أميركا سياسياً وأخلاقياً مرة أخرى، مثل ما حدث لها في إدارة بوش السابقة.