أميركا في موقع لا يزال متقدّماً لكنّه لم يعد بالتأثير ذاته كما كان منذ سنوات، أو كما كان يأمل قادة الإدارة السابقة. ثمة توازنات جديدة واستقواءات عليها في أكثر من مكان غازي العريضي منذ سنوات قدّمت الولايات المتحدة الأميركية نفسها على أنها زعيمة وقائدة العالم لوحدها وأن النظام العالمي الجديد، سياسياً واقتصادياً وآليّات وإجراءات على مستوى المؤسّسات الدولية السياسية والمالية والأمنية، ينتظم تحت أمرتها، وثمة وصفات جاهزة لكل دول وشعوب العالم يجب الالتزام بها في سياق تكريس دعائم هذا النظام وتحت عنوان العولمة، أي المشروع الأميركي الجديد لقيادة العالم. توهّم البعض أن الفرصة المتاحة أمام أميركا هي قدر محتوم. فما تقوله هذه الدولة العظمى المتفرّدة بعد سقوط الاتحاد السوفييتي وحصول متغيّرات هائلة على مستوى المعادلات الدولية والإقليمية، يجب أن ينفّذ بل هو نافذ حكماً. ربما كان ثمة فرصة أمام أميركا لتتبوّأ المركز الأكثر تقدّماً ونفوذاً وسيطرة وتأثيراً في العالم وخصوصاً بعد العام 2001 إثر العمل الإرهابي الذي استهدف الولايات المتحدة وأبراجها المالية والأمنية والسياسيّة، انطلاقاً من حالة التضامن العالميّة التي ظهرت، والموقف الواحد الرافض للإرهاب، والمغازي والخلاصات التي استنتجها الجميع من وراء هذا العمل. لكن الفرصة ضاعت، لأن الإدارة الأميركية في حينه أدارت ظهرها للعالم، وذهبت في اتجاه المزيد من التفرّد وتنفيذ الخطط المعدّة سلفاً لحكم العالم انطلاقاً من استهداف العراق وصولاً إلى احتلاله، مروراً بأفغانستان، وما خلفته تلك السياسة حتى الآن ... وما نتج ذلك هو أننا دخلنا في مرحلة الفوضى العالميّة وليس في نظام سياسي مالي عالمي مستقر. والدليل فشل الولايات المتحدة في العراق وأفغانستان. وشملت هذه النتائج الكارثة المالية التي أصابت النظام السياسي والمالي والاقتصادي في أميركا وحالة القلق والتراجع التي تميّز الواقع الأميركي اليوم، والذي لم تتمكّن الإدارة التي سبّبته (بوش و فريقه) من الاستيعاب أو المواجهة، كما لم تتمكّن الإدارة الجديدة (أوباما) من فعل شيء يذكر حتّى الآن. وإلى جانب هذا الفشل، كان فشل سياسي كبير في الموضوع الفلسطيني. ومن الواضح أن إسرائيل استفادت من كل ما سبق ذكره، وتصرّفت وتتصرّف من موقع المتفرّد بتقرير مصير الفلسطينيين، وهو مصير محتوم بالنسبة إليها ومحدّد بخيارات واضحة. ساسة تل أبيب يريدون إسرائيل دولة يهوديّة، وحملة الجنسيّة فيها يجب أن يدينوا بالولاء لها. ويريدون القدس عاصمة للشعب اليهودي. ولا حق عودة للفلسطينيين. والاستيطان مستمرّ و سيستمرّ. ولتسقط المفاوضات وقد سقطت. وكان الدعم الأميركي أوالتسليم الأميركي لنقل في هذا المجال واضحاً. وبالتأكيد هذا ليس أمراً عادياً، بل هو مسألة حسّاسة وجوهريّة ومؤثرة في مسار الأمور لأن مثل هذه السياسة ستولّد المزيد من العنف والحقد والكراهية والإرهاب أيضاً تحت عنوان الدفاع عن فلسطين وحقوق أبنائها. كما أن إثارة مسألة الإرهاب من قبل الأميركيين والإسرائيليين بشكل ملازم للإسلام هويّة وثقافة وتربية وآفاقاً ساهم إلى حد كبير في هذه الهوّة بين المسلمين وأميركا وفي توليد كره استثنائي للسياسة الأميركية. كذلك كان الفشل حتى الآن في التعاطي مع الموضوع النووي الإيراني ومع روسيا والصين وأميركا اللاتينية ودول العالم. باختصار، الولايات المتحدة اليوم في موقع لا يزال متقدّماً لكنّه لم يعد بالتأثير ذاته كما كان منذ سنوات. وبالتأكيد كما كان يأمل ويخطط قادة الإدارة السابقة. ثمة توازنات جديدة واستقواءات عليها في أكثر من مكان، بل وكما يُقال "عبرت العين" على أميركا. كسرت هيبتها وهي أسيرة أزمات داخلية جديدة تودي بها إلى مزيد من الضعف. وكان ينقصها "ويكيليكس" . ويكيليكس قضيّة أكبر من صاحبها "أسانج" الذي لمع نجمه ولا يزال وأكبر من يومياتنا وضعف نفوسنا وانحدار مستوى تفكيرنا السياسي عندما نختصرها ونراها فقط في حساباتنا السياسية الضيقة فنمارس شماتة ضد بعضنا وبين بعضنا ونتلذّذ بنكاياتنا السياسية في مواجهة بعضنا البعض .. "ويكيليكس" ضربة للدبلوماسية، ولكل كواليسها ومبرّر وجودها كفنّ في التخفّي أو فن صوغ القرار في مفاوضات الأسرار ... هي ضربة لهيبة أميركا وإساءة إلى قدرتها على إلتزام الشفافيّة والسرّية والثقة في التعاطي مع الآخرين. إذا كان كل ذلك مكشوفاً أو ساقطاً أو مشكوكاً فيه أو مخترقاً أو غير آمن أو غير سليم أو مادة للبيع والشراء والتجارة و اللّعب والاستغلال فمن يجرؤ – لو كان يتمنّى ويريد – بعد اليوم على التعاطي مع الأميركيين؟ وأبعد من ذلك ومما سيكشف بعد، سوف نكون أمام واقع جديد في التحليل واتخاذ القرار ... واقع مؤلم ومعقّد قائم على عدم الثقة وعلى التوريط.