في الوقت الذي يقف فيه المجتمع الدولي مشدوهاً أمام ما كشفت عنه تسريبات "ويكيليكس"، وتسعى فيه الولايات المتحدة جاهدة للبحث عن غطاء، تقف الهند متفرجةً على نسختها الخاصة من "ويكيليكس"، التي تتمثل في تلك المحادثات الهاتفية المسجلة سراً بين سياسيين كبار، ووسطاء أعمال، وصحفيين معروفين والتي تعطي لمحة عما يدور في عالم الفساد. فقد ورد إسم أحد الوزراء وسيدة كانت تعمل كوسيطة لتسهيل عقد صفقات، وإعلامي وكاتب عمود صحفي معروفإلى جانب عدد آخر من الشخصيات، فيما يقرب من 100 محادثة هاتفية كشفت عن وقائع تسريب معلومات - والحصول على معلومات- عن أسعار النفط والغاز في السوق المحلية، ومعلومات عن عدد من السياسات الحكومية المهمة. وأظهرت تلك المحادثات المسجلة، أصوات صحفيين كان يفترض فيهم أن يقوموا بتغطية الأخبار دون الانحياز لأي طرف من الأطراف، ولكنهم انحازوا، وتلون نقلهم للأخبار باعتبارات أخرى تتعدى الخط الفاصل ما بين الصحافة، والتلاعب، واستخدام النفوذ من أجل الحصول على مكاسب. وفي تلك الشرائط تُسمع أيضا أسماء إعلامي هو الأشهر في الهند، وصحفي معروف بصحيفة "هندوستان تايمز" اليومية، وهما يعرضان استخدام اتصالاتهما ومعارفهما ونفوذهما لدى حزب "المؤتمر"، في توصيل رسالة من سيدة تعمل كممثلة لعدد من أبرز رجال الأعمال في الهند. ويعرض الإعلاميان في تلك المكالمات أيضاً التوسط بين الأحزاب السياسية، بل والمساعدة على ترتيب عقد الاجتماعات. في الوقت الراهن تنقسم وسائل الإعلام الهندية، المعروفة ببراعتها في الكشف عن الفضائح وقصص الفساد في موقفها من تلك الشرائط. ففي حين يرى بعضها أن تلك الشريط ليست سوى نتاج لعملية واسعة النطاق لجمع الأخبار من جانب الصحافة الهندية، يرى بعضها الآخر أنها ليست سوى عملية كبيرة لاستغلال نفوذ وتحقيق مصالح خاصة. ولم تكتف المجلات والصحف الهندية المشهورة ومنها على سبيل المثال مجلة" أوت لوك" المعروفة بنشر الأنباء الخاصة بتلك الأشرطة، وفقرات مما جاء فيها، وإنما قامت أيضاً بوضع تفاصيل تلك المحادثات بالكامل على مواقعها الإلكترونية لأثبات أن تلك الشرائط كانت حقيقية. في الوقت نفسه، أدى الكشف عن محتويات تلك الشرائط إلى إثارة سجال آخر حول أخلاقيات المهنة الإعلامية ومدى الالتزام بها، وضرورة تحلي الصحفيين بالحذر عند تعاملهم مع مديري الشركات ومسؤوليها، ومراعاتهم للحدود الفاصلة بين ما هو مشروع وما هو غير مشروع. على الرغم من أن الفساد ظاهرة عالمية، فإن منسوبه تزايد في الهند لدرجة كبيرة، وبات يزكم الأنوف. وسبب تفشي الفساد في المجتمع الهندي، يرجع في المقام الأول لزوال الحدود الفاصلة بين البيروقراطيين والسياسيين ورجال الأعمال، مما أدى لسقوط كثيرين في هاوية الانحراف، لدرجة أن الوزراء الهنود الذين نجحوا في الاحتفاظ بصورة نظيفة وخالية من شبهات الفساد، أصبحوا قليلين. فخلال الأسبوع الماضي على سبيل المثال، قامت الشرطة الهندية بمداهمة منزل ومكتب وزير الاتصالات ومساعديه، المتهمين بارتكاب مخالفات قانونية في إصدار رخصة لإنشاء شبكة جديدة للهواتف النقالة لشركات اتصالات هندية عرفت بـاسم عملية 2G. وكان من المفترض أن يتم منح تلك الرخصة من خلال مزاد علني، غير أن تقريراً صادراً عن المراجع العام، والمُراقَب من قبل البرلمان، أدعى أن ذلك المزاد لم يتم إجراؤه. وحسب تقديرات تقريبية فإن الحكومة الهندية خسرت بسبب ذلك ما يقرب من 38 مليار دولار أميركي. ولم يكن أمام الوزير من خيار سوى الاستقالة من منصبه عقب التقارير التي نشرت عن ممارساته ، حيث يتم التحقيق معه في الوقت الراهن من قبل المحققين. في الهند يتم غالباً حجب قضايا الفساد التي تتورط فيه شخصيات كبيرة، من مختلف المجالات، على أساس أن نشر تلك القضايا يؤثر على المناخ الاستثماري في بلد يسعى جاهداً للتحول إلى قوة اقتصادية عالمية. وكانت أول التسريبات للمعلومات التي احتوت عليها تلك الأشرطة قد تمت مباشرة عقب دورة ألعاب الكومنولث التي أقيمت في نيودلهي، والتي أحيطت بالعديد من شبهات الفساد والتلاعب في قيمة نفقات ومصاريف التجهيز للدورة، حيث تبين أن المبالغ المنفقة قد فاقت المخصصات المحددة في البداية بفوارق هائلة. بعد تلك الفضيحة مباشرة جاءت فضيحة الإسكان، التي انطوت على مخالفات قانونية تمثلت في بناء مشروع سكني على أرض مملوكة للقوات البحرية الهندية، كانت مخصصة في الأصل لأرامل الجنود والضباط الذين ماتوا في الحرب. وقد تبين أن شقق ذلك المشروع قد ذهبت للساسة النافذين وأقاربهم ومن بين المستفيدين جنرالات متقاعدون، وثلاثة من أقارب الوزير الأول في ولاية "مهارشترا". وقد قام حزب "المؤتمر" الهندي الحاكم في محاولة منه للتقليل من الأضرار الناتجة عن فضيحة دورة ألعاب الكومنولث بإقالة مسؤوليه الكبيرين المتورطين في تلك الفضيحة التي لوثت صورة البلاد. أما "سوريش كالما دي" كبير منظمي دورة الكومنولث و"أشوك تشافان" الوزير الأول في ولاية "مهارشترا"، التي تعتبر أغنى ولايات الهند، فقد طُلب منهما تقديم استقالتهما بعد فضح تورطهما في ممارسات فساد وسوء إدارة في وسائل الإعلام الهندية؛ وهو ما حدث بالفعل حيث استقال "تشافان" من منصبه كوزير أول في ولاية مهارشترا، كما استقال "كالما دي" من منصبه كسرتير عام لحزب المؤتمر الهندي، وهما الآن يخضعان للتحقيقات. ويُشار إلى أن مركز الهند في مؤشر الشفافية الدولية، قد تدنى من المركز السبعين إلى المركز السابع والثمانين. ومن ضمن الدول الأقل فساداً من الهند كولومبيا ورواندا والصين. ويشار إلى أن الإقالة الحالية للسياسيين والبيروقراطيين من قبل حكومة "مانموهان سنج" قد خلقت نوعاً من الأمل في أن الإجراءات الحازمة والصارمة، سوف تؤدي في نهاية المطاف إلى تطهير النظام من أدران الفساد.