هنالك ظاهرة تسترعي الانتباه، وما زالت تتكرر بين الحين والآخر، وهي ظاهرة تحجيب الفنانات في أواخر العمر، وأثر ذلك الطيِّب على الجمهور الذي طالما أحبهن وعشقهن وتمتع بفنهن. يتحولن من العلن إلى السر، ومن السفور إلى الحجاب، من النقيض إلى النقيض. وتستحسن الناس الهداية. وربما تربطها بآخر العمر، والاستعداد لليوم الآخر، للحساب، عقاباً أو ثواباً. ويتم التحول من الماضي إلى المستقبل، ومن الظلام إلى النور، والانتقال من الضلال إلى الهداية. وربما ينبغي التنبيه إلى أنها ظاهرة اجتماعية أكثر منها ظاهرة دينية خالصة، وأهميتها تكمن في أنها أصبحت نموذجاً للجميع. ومن لم تظهر عليه ويظل على حياته الأولى فإنه، في نظر البعض، يخسر الدنيا والآخرة معاً، الدنيا لأنه اتبع طريق الضلال، والآخرة لأنه لم يتبع طريق الهداية. وبهذه الطريقة أصبحت الظاهرة في نظر البعض بمثابة ضرورة اجتماعية على كل الفنانات الخضوع لها، والتسليم بها. وطبعاً نحن لم نشق على قلوب الناس لنعرف مدى صدقها على المستوى الفردي. هل هي تطور طبيعي من حالة إلى حالة كما حدث لبعض الزهاد ورجال الدين مثل إبراهيم بن أدهم في التصوف الإسلامي، أو القديس أوغسطين في التصوف المسيحي؟ هل هي انكسار بين حالتين، مرحلتين من العمر، الشباب والشيخوخة، لا اتصال بينهما، أم هي نجومية مستمرة تغيرت أشكالها، من نجومية في الدنيا إلى "نجومية" في التدين، من طلب الحسنى في الدنيا إلى طلب الحسنى في الآخرة؟ في حالة الصدق مع النفس فإن الهداية من الله، كما يقول الأشاعرة. الهداية والضلال بيد الله. أما عند المعتزلة فالهداية والضلال من النفس. والإنسان بعد امتداد العمر قادر على أن يعيد اختياراته، ويبدأ بداية جديدة. وهو ما يُسمى التوبة. وشروطها عند الصوفية ثلاثة: الندم على ما فات، وترك الزلة في الحال، وعقد النية على عدم العودة إليه في المستقبل. ومن الأفضل أن يعد الإنسان لآخرته بعد أن أعد لدنياه. فالموت قادم، وما هو آتٍ أقل مما فات. والنهاية على وشك. وكل شيء فانٍ. ويترتب البعض على ذلك عدة تساؤلات: هل الفن حرام؟ هل الإبداع الفني حرام؟ هل التعبير عن الحياة ومعانيها والحكمة منها في السينما أو المسرح أو في الفن التشكيلي أو بالغناء والرقص حرام؟ هل الدين يعارض الفن؟ هنا قد يتم التحول من الفن ليس إلى التدين بل إلى الموقف المتشدد، وتحريم ما لم يحرمه الله. الفن تعبير عن حكمة الخالق في الخلق. وهو صوت العقل والحق والحكمة. ينطلق من القلب ومن صدق القول وليس من زيف اللسان أو النفاق في السلوك. وهل التحول إلى التدين هو بالضرورة التحول إلى التنسك، المغالاة في العبادة، والعزلة عن الناس؟ هذا هو التصور الشعبي لعلاقة الدنيا بالآخرة، أنهما متعارضتان، لا يمكن الجمع بينهما، وأن الإنسان يكون طائشاً في أول حياته في مرحلة الشباب، ثم يهديه الله في الفترة الثانية من العمر حتى يستقبل الله راضيّاً مرْضيّاً. أي الانكسار في مسار الحياة من النقيض إلى النقيض، من الخطأ إلى الصواب، ومن الباطل إلى الحق، ومن الشر إلى الحق، ومن العقاب إلى الثواب؟ الدنيا والآخرة لا تتعارضان. هنا قد يعطي الفنان نموذجاً للدراما. حياته دراما. دراما في بداية حياته، ودراما في آخر حياته. الدراما مستمرة، من البداية إلى النهاية. والزهد أحد أشكال التدين ولكن ليس هو الشكل الوحيد. هناك العلم والفن وخدمة الناس وأعمال الخير الكثيرة. كما يمكن لهذا التحول من الدنيا إلى العمل من أجل الآخرة أن يظهر في بناء المستشفيات، والعلاج المجاني للفقراء، وفي بناء المدارس والمساهمة في تعليم الأميين، وفي بناء دور الأيتام لمساعدة من لا عوائل لهم، أو في بناء الأندية الرياضية والاجتماعية التي تجمع أطفال الشوارع. فالخدمة الاجتماعية شكل فعال من أشكال التدين، والله في عون العبد ما دام العبد في عون أخيه. وقد أثنى القرآن الكريم على عليّ، كرم الله وجهه، وآل البيت (وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِيناً وَيَتِيماً وَأَسِيراً). صحيح أن "موائد الرحمن" أصبحت عادة متبعة تساهم فيها بعض الفنانات المحجبات في شهر رمضان ولكنه شهر واحد. فلماذا لا تكون سُنة جارية في مؤسسة قائمة؟ وفي حالة النجومية المستمرة، انقلاب الفنان على نفسه ما هو إلا انقلاب ظاهري ولكن الاختيار الأول ما زال مستمراً وإن تغير الشكل. فجمال الوجه ما زال مستمراً. ويزداد الحجاب بهاء لو كان مرصعاً بالنجوم التي تتلألأ. والعينان تتلألآن مكحلتان. والصوت ملائكي خافت وكأنه حديث في الجنان. والفنان على كل لسان لما حدث له من انقلاب في حياته. وقد يتساءل نفس المشاهد: أين الأدوار الفنية السابقة، أين المجد الإعلامي السابق؟ والفنان قد يعطي مقابلات تلفزيونية تذكّر الناس بما مضى. والابتسامة مستمرة. وهو فتح جديد في ميدان الإعلام، فبدلا من الدراما المؤلفة أو التمثيلية هناك الدراما الحية المجسدة. صحيح أن الجسد لا يظهر بمكوناته ولكن الوجه ربما يغني بإشراقه. هل هذا التحول ركوب للموجة، ودخول في المد الإسلامي الجارف في الحياة العامة كرد فعل على الفراغ السياسي وأزمة الانتماء الوطني في بعض المجتمعات العربية؟ وقد تؤيد بعض الجماعات الإسلامية هذا التحول توظيفاً للنجومية الفنية واستثماراً للنجومية الدينية. إن الإنسان مسؤول عن شبابه فيمَ أفناه وليس فقط عن آخر عمره فيمَ قضاه. وهو مسؤول عن إنفاق ما آتاه الله من مال وثروة، وما حباه الله من جمال الخلقة، وكيف استثمر محبة الناس له، وكيف أفادهم منها بالنموذج القويم والسلوك السليم والقلب الطاهر، الصافي، والموقف الشجاع في التصدي للقضايا الاجتماعية والسياسية مثله مثل قادة الرأي كالساسة والكُتاب والمفكرين. فالفن في خدمة الشعب، بصرف النظر عن مراحل عمر الفنان. بدلاً من ذلك التصور الشائع وكأن الفن للشباب، والتدين للشيخوخة! وماذا يفعل الفنانون إذا ما أرادوا السير في طريق الفنانات؟ هل يلبس الواحد منهم جلباباً أبيض، ويمسك بسبحة، ويتمتم بشفتيه؟ فالفن بداية ونهاية. ربما لأن الفنان لم يستثمر جسده كما فعلت الفنانة. فلا يحتاج إلى تحولات شكلية. ففي هذه الثقافة المرأة ما زالت هي ملكة الإغراء وليس الرجل! ومع ذلك، من يدري ماذا يحدث في المستقبل؟