تطرقت في المقال السابق إلى بعض الأفكار والمقترحات التي طرحها منظرون وساسة غربيون لإعادة تقسيم المنطقة العربية، وأشرت إلى أن مثل تلك المشاريع لا ينبغي النظر إليها بعفوية، إذ تكمن خطورتها في كونها تمثل تكراراً يحاول استرجاع التجربة الاستعمارية وإعادة إنتاجها، ومن ثم فهي أكثر من مجرد تنظير فكري يتسلى منتجوه ببعض الافتراضات والسيناريوهات المستقبلية المحتملة، بل هي تعبير عن استراتيجية طويلة المدى ترمي إلى إعادة رسم خريطة المنطقة العربية. ولذلك التوجه بعض تحركاته على أرض الواقع، وفي داخل العالم العربي. فمنذ انتهاء الحرب الباردة واختفاء الخطر الشيوعي، أجمعت الدوائر الاستراتيجية الغربية على ضرورة إعادة التفكير في المنطقة من منظور جديد يساير التغيرات الكونية الحادثة وينسجم مع مصالح القوى الكبرى. ومن هنا لا غرابة أن تحاول تلك المقترحات والأفكار توظيف حالة القلق والتوتر والصراع الطائفي في أماكن من العالم العربي، استناداً إلى مشاريع سياسية تتفق مع التوجهات الاستراتيجية الجديدة للغرب، بما تحمله من مضامين تاريخية واجتماعية ونفسية وأيديولوجية. أما النتيجة فهي جعل المجتمعات العربية تعيش حالة من الفوضى وعدم الاستقرار، تعميقاً لتناقضاتها الداخلية. ولا تكاد توجد خلافات فكرية واستراتيجية بين دول الغرب وقادته ومفكريه حول هذا التوجه إزاء العالم العربي. وما من شك في أن تلك السياسة التفكيكية تركت، بتوجهاتها المعلنة وغير المعلنة، آثاراً واضحة على المنطقة العربية؛ لعل أخطرها ظهور النزعات الانفصالية داخل كثير من شعوب الأمة العربية وفي بلدانها، لاسيما بعد أن وجدت من يدفعها من الخارج بإثارة المطالبات العرقية والإقليمية والمذهبية. ومن الأمثلة على ذلك ما نراه حالياً في جنوب السودان، وفي جنوب اليمن، وفي المغرب العربي، وفي العراق، علاوة على محاولات وضغوط مستمرة بغية تأجيج النزعات الانفصالية في ساحات عربية وإسلامية أخرى. وبالطبع فثمة، بالتوازي مع ذلك، جهود لتكوين ونشر ثقافة سياسية تشجع على إفشاء الروح الطائفية والانفصالية والعودة إلى ما قبل مرحلة الدولة الوطنية. إن التعامل مع مثل هذه الذهنية التفكيكية التي تحاول إرجاع مجتمعات ودول العالم العربي إلى الوراء، بوسائل مختلفة (ناعمة وخشنة)، ينبغي أن يتصف بالصبر والبصيرة، وأن يستند إلى قراءة استراتيجية واعية ومنفتحة، وأن يتسلح كذلك بإرادة سياسية قوية قادرة على احتواء مواقف وخطط من ذلك القبيل. إن هذه التوجهات السياسية تضع الدول العربية، نظماً وشعوباً، أمام تحدٍ كبير وصعب، وفي مواجهة اختبار حقيقي يُلزمها بالعمل على التقارب والتضامن والتوحد، تحقيقاً لما يجمعها تحت سقف واحد ويجعلها أمة قادرة على البقاء والعيش في العالم. ويأتي في مقدمة المتطلبات العاجلة تحصين الأمن القومي للأمة العربية، بأن تكون لها استراتيجيتها الدفاعية والصناعية والاجتماعية والتقنية. ومما لا يليق بالأمة العربية أن تنام متجاهلة مثل تلك الخطط والرؤى التفكيكية، لاسيما وأن هناك قوى تحاول حشد إمكانيات كبيرة لإنفاذ خططها، ولزرع الفتن في دول العالم العربي وبين شعوبه، كما تسعى للحيلولة دون توحد شعوبه بتكريس التناقضات الداخلية وتحويلها إلى صراعات دموية ودائمة. لقد أصبحت تلك القوى تلتف على المنطقة، وهي تدرك الأهمية الاستراتيجية لهذا الالتفاف، وكونه يساعد على استكمال التفتيت النهائي للعالم العربي.