يطيب لبعض المؤرخين الحديث عن "الحرب الطويلة" التي شهدها القرن العشرون، أي ذلك النزاع الطويل الذي دار خلال الحربين العالميتين، ثم الحرب الكورية وحرب فيتنام. ويصر هؤلاء على القول إن تلك الحرب كانت نزاعاً حول موضوع واحد هو أي نوع من النظام السياسي يجب أن يسود العالم: الديمقراطي، أم الشيوعي أم الفاشي؟ ويستنتج هؤلاء أن الموضوع الذي تدور عنه الحرب كثيراً ما تكون له أهمية أكبر من تفاصيل الأفراد المحددين والجيوش والأمم التي خاضت الحرب. وبالمثل يجب القول إن شبكة الإنترنت دخلت هي الأخرى مرحلة حربها الطويلة. وفي المعسكر الأول من هذه الحرب الأخيرة، يبرز اسم "جوليان أسانج"، مؤسس موقع "ويكيليكس"، يؤازره جيش جرار من مؤسسات ومواقع القرصنة الإعلامية التي وقفت وراءه خلال الأسابيع القليلة الماضية، وساندته في شن هجمات منسقة على المؤسسات الحكومية والشركات الخاصة التي اعترضت طريق تسريباته. وينتمي مؤازرو "آسانج" إلى تقاليد طويلة ذات نزعة توسعية عبر شبكة الإنترنت. ويؤمن هؤلاء القراصنة بأن على الشبكة الإلكترونية أن تعيد تشكيل العالم وفق صورتها هي. كما يؤمن أصحاب هذا الرأي بضرورة أن يكون المبدأ الرئيسي المنظم لحياة المجتمع، صغر أم كبر، هو الشبكات غير المركزية، الشفافة المفتوحة كلياً دون أي قيود أو حجر عليها من أحد. أما في المعسكر الثاني من هذه الحرب، فهناك من يؤمنون إيماناً راسخاً بأن على العالم أن يعيد تشكيل الشبكة الإلكترونية على صورته وليس العكس. وفي نظر هؤلاء فإن الجوهري في الشبكة بحكم طبيعتها أنها أداة لا أكثر، يجب إعادة تشكيلها وتسخيرها لخدمة المؤسسات المجتمعية القائمة. وهكذا يعمل كل معسكر من المعسكرين المتخاصمين على تشكيل تكنولوجيا ومعايير الشبكة الإلكترونية بما يتفق ورؤاه الخاصة عنها. وفي النزاع الحالي، استهدف الاتحاد الهلامي للقراصنة الناشطين الذين هبوا لمؤازرة "أسانج"، فيما أطلقوا عليه تسمية "عملية الرد" بعض الشركات والمؤسسات مثل "بي بال" و"ماستر كارد" و"فيزا" وغيرها بهجمات إلكترونية شلت هذه الشركات والمؤسسات ومنعتها من استخدام الشبكة والمواقع الخاصة بها. والمثير للاهتمام أن هذا الهجوم اتخذ طابع الجهد الدولي واسع النطاق إلى حد لا يمكن تصوره. فعلى سبيل المثال، اعتقلت الشرطة الهولندية صبياً يبلغ من العمر 16 عاماً فحسب الأسبوع الماضي، بتهمة التورط في الحملة المذكورة. أما الهدف الرئيسي الذي يعمل من أجل تحقيقه هؤلاء القراصنة الناشطون -وهو ما أعلن أسانج عدم صلته به- فهو يقوم على منطق بسيط يطالب بالاستقلال التام للشبكة. في هذا الصدد شرح ناطق لم يذكر اسمه عن هذه المجموعة "المجهولة" التي تخوض الحرب الإلكترونية دفاعاً عن "ويكيليكس" الآن لصحيفة "الجارديان" البريطانية الفلسفة التي يقوم عليها نشاط المجموعة بقوله: نحن ضد تدخل الحكومات والشركات في حرية الشبكة. واكتفى ذلك المتحدث الذي يبلغ من العمر 22 عاماً بتعريف نفسه على أنه "كولد بلود". وأكد إيمان المجموعة بانفتاح الشبكة وحرية استخدامها للجميع. يجدر الذكر أن الحرب الدائرة الآن بين "المجموعة المجهولة" هذه والمؤسسات القائمة ليست هي الحرب الطويلة الوحيدة بين القراصنة الإعلاميين والمؤسسات. فقد سبقتها تلك الحرب الإلكترونية الطويلة التي قادها "ريتشارد ستولمان" -الذي كان يعمل سابقاً في مختبر MIT للاستخبارات الصناعية- في بداية ثمانينيات القرن الماضي. وكان الدافع الذي حرضه على إطلاق مشروع GNU الضخم المنادي بانفتاح الشبكة الإلكترونية وإتاحة استخدامها للجميع، منعه من استخدام وتعديل شفرات طابعة الليزر الخاصة بالمختبر الذي كان يعمل فيه. وفي عام 1999 كذلك أطلق "شون فاننج" موقع "نابستر" الذي سمح للمستخدمين بتبادل ومشاركة المحتوى الإلكتروني فيما بينهم، وبلغ عدد مستخدميه في ذلك الوقت ما يزيد على 25 مليون مستخدم. وبعد إغلاق هذا الموقع بسبب سماحه بتبادل المحتوى المقيد بحقوق الطبع والملكية الفكرية مجاناً بين المشتركين، نشأ موقع آخر هو "بايرت باي" -الذي يمكن وصف مؤسسيه بأنهم الآباء الشرعيون لأسانج مؤسس موقع "ويكيليكس" الحالي. ذلك أن موقع "بايرت باي" سمح بتسريب وتبادل ملفات هائلة تخضع لقيود حقوق الطبع والملكية الفكرية في عام 2003. وعليه واصل موقع "ويكيليكس" التقاليد ذاتها، ولكن على نطاق أوسع بكثير من كل النزاعات السابقة التي خاضتها المواقع الإلكترونية بدافع تحرير الشبكة من أي قيود أو موانع مهما كانت مبرراتها. ومع تحول الشبكة إلى جزء لا ينفصل من حياتنا اليومية، دارت الحروب السابقة حول لمن يحق له استخدام وتحرير شفرات الشبكة الإلكترونية، وكان موضوعها الرئيسي: المحتوى الإلكتروني الخاضع لحقوق الطبع والملكية الفكرية. أما اليوم، وعقب تسريبات "ويكيليكس" الحالية، فقد بلغ النزاع إلى قمة مستويات القضايا المتعلقة بسرية المعلومات الحكومية ونفوذ الشركات. ولا شك أن تداعيات الجهد الذي بذله "أسانج" في إطار سعيه لتقويض سرية وتحكم المؤسسات القائمة، والهجمات التي شنها مؤيدوه ضد شركة "ماستر كارد"، ولجنة العمل السياسي التي تقودها سارة بالين، وغيرها من الجهات التي استهدفت أسانج، تعد أحدث وأعلى أطوار الحرب الإلكترونية التي ظلت تدور منذ بضعة عقود. ولكن ما هو المصير المتوقع لهذه الحرب؟ من رأي "تم وو" أستاذ التاريخ بجامعة كولومبيا، أن شبكة الإنترنت لا تختلف في الأساس عن أي وسيلة اتصال أخرى، تخضع في نهاية الأمر للتحكم الحكومي بنشاطها. بيد أن النزاع الدائر بين مستخدمي الإنترنت والمؤسسات القائمة -الحكومية وغيرها- إنما هو متضمن في طبيعة وتاريخ الشبكة نفسها. فهي وسيط إلكتروني لشبكة واسعة ممتدة من المستخدمين المتمسكين بحقهم الكامل في الحرية والانفتاح والشفافية. وعليه فإن المتوقع لهذه الحرب أن تستمر طويلاً ولعدة عقود قادمة. -------- تم وانج باحث سابق في مركز "بيركمان للإنترنت والمجتمع" بجامعة هارفارد ------- ينشر بترتيب خاص مع خدمة "واشنطن بوست وبلومبرج نيوز سيرفس"