نادرة الأماكن التي هي اسم على مسمى، ومن أندرها جزيرة "السعديات" المشاطئة لأبوظبي، عاصمة دولة الإمارات. جزيرة صغيرة تبلغ مساحتها 27 كلم مربعاً تعيش حالياً لحظة فريدة في تاريخ الفن والعمران العالمي. ثلاثة متاحف عالمية بدأ العمل بإنشائها هذا الشهر، تضع "السعديات" على خريطة المراكز الثقافية العالمية. وهناك قيد التصميم؛ متحف رابع، وجامعة عالمية، ومركز فني يأوي صالات موسيقية، ودور مسرح، وأوبرا، وأربعة ملايين قدم مربع مخصصة لإنشاء مدينة إعلامية تضم استوديوهات إنتاج تلفزيونية وسينمائية. فرع متحف "جوجنهايم" الذي بوشر بحفر أسسه يعادل 12 مرة حجم مقره الرئيسي في نيويورك، وتبلغ نفقات إنشائه 800 مليون دولار، إضافة إلى 600 مليون دولار لشراء مقتنيات فنية، ويعادل هذا مائتي مرة موازنة متحف "جوجنهايم" نيويورك. صمّم المتحف المعماري الأميركي فرانك جيهري، ويتوقع أن يتسم بمسحة جمال عربي تضاهي فرع "جوجنهايم" في مدينة بلباو بإسبانيا، الذي حولها من ميناء مترب قبيح إلى مركز سياحي يجتذب سنوياً مليون سائح ثقافي. ويفوق الخيال متحف "لوفر أبوظبي"، الذي صممه المعماري الفرنسي "جان نوفيل" وتبلغ نفقة إنشائه 500 مليون دولار، ويُعتبر تحفة معمارية بهندسته الداخلية تحت قبة فولاذية مخرمة تتيح لأشعة الشمس إضاءة صالات العرض، التي تحيطها حدائق، وتخترقها قنوات مائية. أطلق عليه اسم "المتحف الكوني"، وخصص مبلغ مليار و300 مليون دولار لاستئجار معروضاته من "اللوفر" وغيره من المتاحف العالمية. ويحمل المتحف الثالث اسم الشيخ زايد، وهو المتحف الوطني للإمارات، اتفق على إنشائه مع "المتحف البريطاني"، وصممه المعماري البريطاني نورمان فوستر، مستوحياً رياضة الصيد بالصقور. والرابع هو "المتحف البحري" من تصميم المعماري الياباني "تاداو ناندو"، الذي حقق لنفسه سمعة أسطورية رغم -أو ربما بفضل- تعلمه العمارة بنفسه دون الالتحاق بأي معهد أو جامعة. ظهور "جزيرة السعديات" على خريطة العمارة والمتاحف العالمية أثار دهشة النقاد الغربيين. وكما هو متوقع فإن ظاهرة بهذا الحجم "الأسطوري" تثير تساؤلات من حجمها، كتساؤل الناقد المعماري لصحيفة "نيويورك تايمز" عما إذا كانت "هذه التجربة الجسورة شاهداً على توجه بلدان المنطقة نحو إعادة تكوين هويتها الوطنية... وبث الشعور بالفخر في نفوس المواطنين بأدوات ثقافية وسايكولوجية للعيش في مجتمع العولمة"؟ ويعتقد الناقد الأميركي الذي قام بجولة في الخليج، أن "السعديات" تعبير عن محاولة دول المنطقة "إنشاء قصة جديدة تضع حداً لتاريخ التدهور الطويل، بما في ذلك الاضطراب الذي سببته الحركات الراديكالية الدينية". و"كل مقارنة تعرج"، كما يقول المثل الألماني، ومقارنة "نيويورك تايمز" بين متاحف مختلفة جغرافياً، وتاريخياً، واقتصادياً... تقعد الفكر. "متحف الفن العربي الحديث" الذي افتتح هذا الأسبوع في الدوحة، وقبله "متحف الفن الإسلامي"، قاما على تجربة مختلفة، وهي جميلة بلا شك. فكلا المتحفين بالأصل مجموعة مقتنيات شخصية لأفراد من الأسرة الحاكمة، وقد شاهدتُ بعضها عندما كانت محفوظة في الفيلا الشخصية للشيخ حسن آل ثاني، وهو رسام ويستضيف في مرسمه فنانين عرباً معروفين عالمياً، بينهم العراقيان ضياء العزاوي الذي ساهم بتكوين مجموعة المتحف، وإسماعيل فتاح الذي نحت قطعاً ساحرة معروضة في المتحف الجديد. والجمال هدية العاشق للناس، وكنت محظوظاً بالحصول على لوحة "عشتار" بتوقيع العزاوي، وهي نسخة عن لوحته الكبيرة المعروضة في المتحف الجديد. و"عشتار"، معبودة الجمال والحب والخصب في المنطقة منذ عصر بابل وفينيقيا، أقدم من "أفروديت" الإغريق، و"فينوس" الإيطاليين القدماء. وتتغزل الأوساط المعمارية العربية والعالمية منذ الآن بجمال "مركز أبوظبي للفنون الأدائية" في "جزيرة السعديات"، والذي ورد بالاسم في تقرير "نيويورك تايمز". فالمركز من تصميم زهاء حديد التي تبدو وسط حشد من عباقرة المعماريين في السعديات كراقصة الباليه الأولى "بريما"، فهي "ابنة" المنطقة، ويشبه المركز الذي صممته جوهرة فضائية حطّت على شاطئ الخور. وتحتل رسوم المركز صفحات عدة في كتاب الأعمال الكاملة لزهاء حديد، من تأليف الناقد المعماري العالمي المشهور "فيليب جوديدو". وينبثق المركز الموزع على 10 طوابق فوق الأرض، وأربعة تحتها كشجرة بلورية عملاقة ارتفاعها 62 متراً، تتفتح براعمها عن جذوع متشابكة تأوي خمسة مسارح للموسيقى، والتمثيل، وصالة للحفلات ودار أوبرا، وتتسع لأكثر من 6300 مقعد. ويلاحظ المعماري العراقي خالد السلطاني، الباحث في"الأكاديمية الملكية للفنون" بالدانمرك، أن زهاء "لا تتوقف عند أساليب معتادة في إجراءات ربط شواهد خارج المبنى مع الفضاءات الداخلية، فهي تتخطى بسعيها المثابر الذي لا يقبل التسويف أعرافاً مغلوقية الفضاء المسرحي، متجاوزة محرماته، ومقترحة لنا مسرحاً مكشوفاً داخل أحياز المبنى، وهو المسرح المرن الذي يقع فوق المسارح الأربعة، بجدران وسقوف زجاجية تربط المشاهد الداخلية مع بانوراما الموقع المحيط، وبهذا المقترح فإن زهاء تتطلع إلى تقديم تصميم جديد ونادر في موضوعة عمارة المسارح". وحماس زهاء لجزيرة السعديات مبرر، حسب "فيليب جوديدو"، الذي ينقل قولها بأن "حكومة أبوظبي وضعت فكرة المشروع وطوّرته بشكل باهر، وسيطلق عند تحقق رؤيته الشاملة معياراً للثقافة العالمية خلال العقود القادمة". ومعيار "السعديات" هو معيار "طريق الحرير" الذي كان يربط خلال عصر النهضة العربية الإسلامية التجارة العالمية العابرة للقارات، من أقاصي الصين والهند إلى شمال أوروبا وإفريقيا والمنطقة العربية. وستكون شبكة قطار المترو والفنادق في المناطق المحيطة بالجزيرة مهيأة للسياح القادمين على "طريق الحرير" الجديد عندما تعرض السعديات "أوبرا الأقنعة الصينية". "نيويورك تايمز" تعتبر المشاريع العربية "جسورة في استخدام العمارة والفن لإعادة تشكيل الهوية الوطنية وإصلاح سمعة العرب"! جمال "السعديات" هو معيار المقارنة بين من أهدر تريليونات الدولارات التي اقترضها من الآخرين على قتل وجرح وتشريد ملايين العراقيين، ومن يستثمر مليارين أو ثلاثة من فائض ماله على إنشاء جزر للسياحة الثقافية العالمية الرفيعة. وعندما تضيء "السعديات" كالجوهرة، سيسأل العالم كم زهاء حديد بين صبايا عراقيات بعمر الورود قُتلن، أو هُجِّرن، أو تلفعن بالسواد، يُفزع منظرهن جداتهن؛ أولى المثقفات والأديبات والفنانات في تاريخ العالم؟