مفاوضات على خطين متوازيين، وليست بين طرفين على طاولة واحدة، هي ما تعتبره وزيرة الخارجية الأميركية منهج واشنطن الجديد سعياً إلى تسوية فلسطينية إسرائيلية يتضاءل الأمل يوماً بعد يوم في إمكان تحقيقها. ورغم أن هذا المنهج لا يبدو مختلفاً عما أُطلق عليه مفاوضات تقريبية سبقت المفاوضات المباشرة التي أجهز استئناف الاستيطان عليها قبل أن تبدأ فعلياً، فالجديد وفق خطاب الوزيرة كلينتون في "معهد بروكينجز"، قبل أيام، هو الدخول مباشرة إلى القضايا الجوهرية في النزاع من ناحية، وعدم الوقوف موقف الشريك المتفرج على حد تعبيرها من ناحية ثانية. ومؤدى المنهج الذي طرحته كلينتون، بعد أن قررت إدارة أوباما وقف جهودها لإقناع حكومة نتنياهو بتجميد الاستيطان والتخلي بالتالي عن أسلوب التفاوض المباشر، هو أن واشنطن ستفاوض كلاً من الطرفين سعياً إلى التقريب بينهما، وستطرح أفكاراً "عندما يتطلب الأمر ذلك" وفق ما جاء في خطابها. ويعيد هذا المنهج الدور الأميركي في الجهود السلمية إلى ما كان عليه في ظل إدارة بيل كلينتون الثانية (1997 -2001) التي رعت المفاوضات النهائية (كامب ديفيد الثانية) في يوليو 2000. لكن إدارة كلينتون فشلت رغم أن حكومة باراك حينئذ كانت أقل تشدداً بكثير من حكومة نتنياهو الحالية التي يرفض غالبية وزرائها أي تفاهم بشأن القدس، حتى إذا كان مقصوراً على تجميد الاستيطان فيها لأشهر ثلاثة غير قابلة للتجديد، ويصرون على وجود عسكري إسرائيلي في الضفة الغربية ضمن أية تسوية، ويصممون على اعتراف عربي بدولة يهودية. وهذه المعضلة الجوهرية، التي ستواجه إدارة أوباما في هندسة المفاوضات المتوازية، هي نفسها التي يفترض أن تؤرق القيادة الفلسطينية والعرب في مجملهم. إنها معضلة الانعطاف المستمر في إسرائيل نحو اليمين، وانقلاب خريطتها السياسية رأساً على عقب خلال العقد الأخير. فبعد توازن سياسي حزبي استمر نحو عقدين من الزمن، فرض اليمين الأكثر تشدداً هيمنته على الساحة السياسية الإسرائيلية. وهذا ما ينبغي أن يُعنى به الفلسطينيون، والعرب عموماً، أكثر من التفاصيل المتعلقة بالعملية السلمية المتعثرة. فإذا كان صعباً التعامل مع حكومة نتنياهو الحالية، فكيف يكون الحال إذا جاءت الحكومة القادمة أكثر تشدداً؟ وهذا ليس سؤالا افتراضياً بل واقعي بحكم الاتجاه العام المستمر في الخريطة السياسية الإسرائيلية منذ أواخر تسعينيات القرن الماضي، ولذلك فهو لا يحتاج إلى إجابة قد تختلف فيها الاجتهادات، بل يفرض التفكير فيما هو أبعد من موقف حكومة نتنياهو، ويحث على تخطيط استراتيجي هو أكثر ما ينقص العرب اليوم بشأن الصراع الفلسطيني الإسرائيلي. فالمتوقع أن تكون الحكومة الإسرائيلية القادمة، التي ستُشكل عقب انتخابات الكنيست في أوائل عام 2013 ما لم تجر مبكرة، أكثر تطرفاً مثلما كانت الحكومة الحالية أكثر تشدداً من سابقتها. ويرتبط ذلك بظاهرتين متداخلتين: الأولى هي ازدياد الاتجاه إلى اليمين في المجتمع الإسرائيلي وبالتالي لدى الناخبين الذين ينتخبون أعضاء البرلمان (الكنيست) الذي تحدد أغلبيته اتجاه الحكومة. أما الظاهرة الثانية فهي الانعطاف المستمر نحو مزيد من التطرف في أوساط قوى اليمين نفسها. فقد أصبحت الاتجاهات الأكثر تشدداً هي مركز الثقل في خريطة اليمين الإسرائيلي التي تتسم بانزياح متواصل نحو مزيد من التشدد. لذلك استحوذ اليمين، بأطيافه ودرجاته المختلفة، على نحو ثلاثة أرباع مقاعد الكنيست في انتخابات 2009 للمرة الأولى في تاريخ إسرائيل. واليمين ليس محصوراً في أحزاب "ليكود" و"إسرائيل بيتنا" و"شاس" و"التوراة الموحد" و"الاتحاد القومي" و"البيت اليهودي" الممثلة في الحكومة الحالية والتي حصدت 65 مقعداً. فحزب "كاديما" المصَّنف وسطياً هو أقرب إلى اليمين، أو قل إنه يمثل أقصى يمين الوسط. وبسبب الازدياد المتواصل في مستوى التطرف في أوساط اليمين الإسرائيلي نفسه، أصبح الاتجاه الذي يمثله رجل مثل شارون الراقد في غيبوبته الآن، يعتبر معتدلاً مقارنة بالاتجاهات السائدة في الحكومة الحالية. فلم يعد شارون هو المعبر عن أقصى اليمين بخلاف ما كانت عليه الحال منذ أواخر السبعينيات وحتى بداية التسعينيات. كان شارون هو رجل اليمين القوي في ذلك الوقت. لكن كان بالإمكان محاصرة الاتجاه الذي يمثله في إسرائيل كما حدث بعد غزو لبنان 1982 حين أُبعد من وزارة الدفاع. وهذا هو ما تغير، ولا يزال، في الفترة الأخيرة مفضياً إلى هيمنة يمينية آخذة في التشدد ومستندة إلى قاعدة مجتمعية آخذة في التوسع. فقد مضى زمن كانت انتخابات الكنيست فيه آلية لتداول السلطة بين اليمين ويسار الوسط (ليكود والعمل)، وجاء زمن صارت فيه هذه الانتخابات وسيلة لانتقال السلطة من يمين متشدد إلى آخر أكثر تطرفاً. فالحكومة الحالية لم تأت من فراغ والمواقف التي تتبناها ليست مفاجئة. فمثلا كان إعلاء شأن الاستيطان وتحويله إلى "تابو" لا يجوز الاقتراب منه هدفاً مستمراً لقوى يمينية نشأت على هامش النظام السياسي الحزبي ثم تسللت إلى داخله وأخذت تتنامى إلى أن بلغت وزناً يؤهلها للتحكم في قرار الحكومة الحالية. وقل مثل ذلك عن رفض أي نوع من المساومة في القدس التي كانت على جدول أعمال "كامب ديفيد2" في يوليو 2000. وكذلك الحال بالنسبة إلى رفض الانسحاب من مرتفعات الجولان التي كانت موضع مفاوضات مباشرة خاضتها حكومتا رابين (1992 -1999)، وباراك (1999 -2001). فالتشريع الذي أُقر في نوفمبر الماضي لإلزام أية حكومة إسرائيلية بإجراء استفتاء عام في حال التوصل إلى اتفاق يقضي بالانسحاب من القدس الشرقية أو الجولان، كان مطلباً للاتجاهات اليمينية لفترة طويلة. المعضلة، إذن، ليست في وقف الاستيطان قبل إجراء مفاوضات بين إسرائيل والسلطة الفلسطينية فقط، بل في التآكل المستمر للأرضية التي يمكن أن تنهض عليها أية مفاوضات جادة أيضاً. وهذا ما ينبغي أن يشغلنا اليوم، لأن استمرار الانعطاف نحو اليمين في إسرائيل يقوَّض خيار السلام نفسه من حيث الأصل في المدى القصير وليس المتوسط أو الطويل. فهذا الانعطاف قد يجعل الاتجاه الأكثر تشدداً من نتنياهو في داخل "ليكود" و"إسرائيل بيتنا" في الصدارة بحلول موعد الانتخابات المقبلة. وحين يحدث ذلك، سيكون في إسرائيل رئيس وزراء أكثر تطرفاً من نوع ليبرمان الذي ينضح بالعنصرية أو بنيامين بيجين (نجل مناحيم بيجين رئيس الوزراء الأسبق) الذي يسعى إلى قيادة "ليكود" بدعم الاتجاه الأكثر تشدداً فيه، وقد نجح في خلق تيار متمرد قوي ضد نتنياهو. فهل نحن مستعدون؟