دعيت إلى قناة تلفزيونية للحديث حول بركان آيسلندا، وهل ما حدث كان غضباً من الله على شمال أوروبا، أم أنه قوانين طبيعية لا دخل لأفعال الناس بها؟ وتذكرت في صخب النقاش ما قاله العقاد عن ملحدي ومؤمني القرن التاسع عشر، إبان اشتداد موجة القوانين واكتشافها، فخلال فترة قصيرة تم التعرف على تحلل الراديوم، وأشعة روتنتجن، وبناء الذرة والإلكترون وميكانيكا الكم وقوانين الوراثة.. إلخ. قال العقاد: كان كلا الفريقين يصل إلى نفس النتيجة الخاطئة في فهم الكون! فقد قال الملاحدة بأزلية القوانين وبأنها مستقلة عن أية إرادة ميتافيزيقية، بينما أنكر المؤمنون فكرة القوانين الطبيعية، وأرجعوا كل شيء إلى الخالق. وكان بالإمكان حل المسألة بكلمتين خفيفتين على اللسان ثقيلتين في الميزان: سنة الله، وفي ذلك هداية للملحدين سواء السبيل، وارتفاع بالمؤمنين إلى عتبة العلم. وفي مناقشتي على شاشة القناة، طرحت مفهوم القوانين التي تحكم الكون تحت مصطلح "سنة الله في خلقه"، وعممت هذا المفهوم على الفيزياء والكيمياء وعلم النفس والاجتماع والتاريخ، وذكرت أن القرآن بعد أن أسس لمفهوم "سنة الله" التي لا تتبدل ولا تتحول، كان يتحدث عن سنن المجتمع والنفس... فقد جاء في سورة الإسراء أنه لو جرت محاولة "إخراج النبي من أرضه" فلن يلبثوا خلافه إلا قليلاً، ثم يعقب: "سنة من قد أرسلنا قبلك من رسلنا ولا تجد لسنتنا تحويلا". والتحويل كما ذكرنا هو حرف القانون عن مجراه؛ ليعمل يوماً ويتعطل يوماً، الأمر الذي يذكرني بقانون "الارتياب" الذي دشنه الفيزيائي والفيلسوف الألماني "فيرنر هايزنبيرج" وجماعة ميكانيكا الكم لفهم بناء الذرة ودوران الإلكترون، حيث طرحوا مفهوم الارتياب أو اللايقين في حركة الإلكترون داخل الذرة، فنقلوه إلى مستوى الحياة برمتها، حتى بدا كما لو أنه ليس ثمة من قانون! والفرق كبير بين وجود القانون، أو "السنّة" بتعبير القرآن، وبين عدم وجوده، وهو ما توصل إليه الشاب الألماني النبيه "جاوس" من جامعة "جوتنتجن" فوضع قانوناً لذلك حول القوانين الاحتمالية وطبيعتها الإحصائية. وما توصل إليه "جاوس" بات يُطبق في البيولوجيا والمناخ والبورصات... وخلاصته في البيولوجيا مثلاً أن سكر الدم يتأرجح في حدود 100 ملغ لليتر الواحد، لكن بإجراء فحصين تفصلهما ثانية واحدة قد لا تكون النتيجة نفسها، كما يقول هيرقليطس عن قدمه في النهر، وإن كان الصحيح أنه نفس النهر لكن مع اختلاف الموجة، وكذلك الحال مع مقدار السكر في الدم، بحيث لو جمعنا القيم المتوازية في 24 ساعة ووضعناها في مخطط تمثيلي للاحظنا أن السكر يتأرجح بين 90 و110 ملغ، وقد يتزحزح قليلاً للأعلى أو للأسفل، لكن الأطباء قالوا إنه طالما لم يتجاوز رقم 124 ملغ على الريق فهو في الحدود الطبيعية. ونفس الكلام يصدق على تحرك العملات في سوق المال، وعلى النفس الإنسانية وحركة المجتمع... وبذلك يمكننا إدخال هذا المفهوم إلى وعي المسلمين كمفهوم قرآني، والخروج من حالة العقل الأسطوري. وعالمنا في القرن الحادي والعشرين يكرر على وجه ما مأساة القرن التاسع عشر، والتي لم تحل حتى اليوم في العالم الإسلامي إلا قليلاً، فقد جاءت نتيجة التصويت في بعض المواقع الإلكترونية حول بركان آيسلندا لتقول إنه غضب الله الماحق على أهل شمال أوروبا! عرفت من ذلك أن الخرافة تعشش في العالم الإسلامي مثل الروماتيزم، وأن بيننا وبين العلم مسافة ثلاث سنوات ضوئية!