في حالات غير قليلة في هذا العالم تلجأ بعض الدول المحدودة الحركة أصلًا إلى إنشاء مَعلم كبير، أثري، أو معماري، أو ثقافي لتكسر الصمت بالتعبير عن وجودها ما لم تترك المجال لحضور نخبتها الفاعلة. وتتكرر نماذج ذلك كثيراً في العالم العربي والأفريقي، حين تتزايد عوامل العزلة أو الاعتزال المتبادل من نخبة تجاه أخرى. وليدعني القارئ أصدقه القول، بأن هذا حال الكثير منا اليوم في المشرق تجاه المغرب، وقد يكون العكس، وإنْ تمثلت أمامنا بعض النماذج القديمة نسبياً في نشاط الحركة الوطنية المغاربية بالمشرق، وحديثاً فيما نعرفه عن دور بن بركة وحركته بين المشرق والمغرب من أجل لقاء "القارات الثلاث"، أو دور الراحل الجابري تجاه رحلة الثقافة العربية الإسلامية في عالميها بين العقل والنقل. وبين هذه الزوايا وغيرها كنت أنتقل بحميمية إلى الآفاق المغربية، حتى جذبني مؤخراً عمل ذو قيمة علمية كبيرة. وكان ذلك هو "التقرير الاستراتيجي المغربي" 2006-2010... فوجئت به برقم تسعة، وفي عامه الخامس عشر، وفي 544 صفحة قامت عليه جماعة بحثية في "مركز الدراسات والأبحاث في العلوم الاجتماعية" بالرباط منذ عام 1995. هكذا قفزت المغرب بعمق إلى ساحتي المعرفية، ليس عبر حادث عارض أو واقعة أهلية، ولكن عبر عمل علمي بارز جدير بالتقدير، وقليل مثله في العالم العربي الواسع إلا في ثلاث أو أربع دول أخرى على ما أعرف. ومثل هذه التقارير قد تأتي وصفية فتكرر مادتها مع الكثير من الكتب، وقد تكون تحليلية، فتذهب بالقارئ إلى عوالم معرفية أوسع، وقد تأتي نقدية فتجر القارئ إلى عالم المواقف. واشهد أن "التقرير الاستراتيجي المغربي" قد حاول بجهد كبير أن يجمع بين الكثير من هذه المحاسن أو جلها ليضع المغرب على الخريطة العربية والأفريقية، بل وفي إطار القوى العالمية من حوله، ونعرف جميعاً أن محيطه معقد بقدر كاف من المغارب إلى الصحراء الكبرى الملغومة، إلى المتوسط المزدحم بالمشاريع، وقد يكون هذا هو ما جعلني أسارع إلى قراءة التقرير، ولكني أدركت أن ثمة ظرفاً آخر لهذه اللهفة على قراءته. ففي نفس هذا الأسبوع الأول من ديسمبر 2010 صدر عن البرلمان المغربي قرار يدعو الحكومة المغربية إلى مراجعة وضع أقاليم "سبتة ومليلية"- أو ما أسميتها في مقال مبكر "أم ليلي"- وادعاء إسبابنا بتبعيتها "للتراب الإسباني"، وكأن ذلك مقدمة برلمانية لمطلب تحريرها! وشدني ذلك لذكرى حدث كبير آخر كم وددت أن يحتفي به العرب مثلما احتفى به الأفارقة، وهو ذكرى مرور خمسين عاما على صدور "الإعلان العالمي لتصفية الاستعمار"، في ديسمبر 1960 بعد الدورة الزاعفة للجمعية العامة للأمم المتحدة في نيويورك بحضور حشد من زعماء عالم التحرر الوطني في ذلك الوقت. جاء إعلان البرلمان المغربي ليقول إن "روح التحرير" إذن مازالت قائمة في أنحاء من عالمنا الذي مازال يعرف جيوباً مستعمرة، سواء كان استعماراً تقليدياً مثل هذا الإسباني، أو استيطانياً صهيونياً، بل فرنسياً على مدى القارات الثلاث. نقلني ذلك بسرعة إلى تلك الصفحات من "التقرير الاستراتيجي المغربي" قبل غيرها من الأجزاء لأقرأ عن العلاقة مع إسبانيا ووضع "سبتة ومليلية" في هذه العلاقات. والحق أنني لا أريد الدخول في مسائل ليست موضع تخصصي، ولكني بمناسبة ما أثارني من أخبار البرلمان المغربي، لم أقرأ في التقرير الصادر ما يشير إلى "الاحتلال الإسباني" أو الوضع الاستعماري في "سبتة ومليلية" بينما هناك ذكر "للحكم الذاتي" لولايات داخل إسبانيا، في الأندلس وكتالونيا. لذا توقعت دلالة آخر انتخابات محلية "لسبتة ومليلية في ربيع 2007 (ص 94) . إسبانيا تكتفي بالحديث عن "موضة" الجوار والحوار وفق علاقتها "البنيوية" مع الصحراء- سبتة ومليلية.. الخ (ص88)، أو أن الموقف كله لم يكشف إلا عن علاقة "عنصرية متسامحة" في إقليم صغير يضم مسلمين ومسيحيين ويهوداً وهنوداً! ومن ثم فهي مدينة "الثقافات الأربع".. ولا مانع عند الإسبان من بحث كونها مركزاً "للحوار الحضاري" وفق مشروع برشلونة أو الإعلام الإسباني. وقد كدت أشعر "بقلق" التقرير الظاهر في هذه المسألة مثل قلقه في معالجة "قضية الصحراء"، التى مازالت تدور في دوائر العولمة والموقف المتردد بين إسبانيا وفرنسا ناهيك عن الدوائر الدولية الأميركية. من هنا وجدت مبرراً لسبق الإطار الدولي للتقرير، على الإطار الداخلي بسبب مؤثرات العولمة الظاهرة في الفضاء المغاربي عموماً. ويكشف التقرير عن جوانب بارزة للسياسة الأميركية في المغرب، بل وفي المغارب عموماً، جديرة بقراءة معمقة في المشرق لتشابه القضايا والتوجهات... فالمغرب تستحوذ على 75 في المئة من إجمالي المساعدات الأميركية للمنطقة المغاربية، بهدف "مكافحة الإرهاب" وتدعيم ترسانته الأمنية (ص 76)، وبذلك تستحوذ دول المغرب الأربع على ثلث تجارة السلاح في القارة الأفريقية، بل إن المغرب تخصص لميزانية الدفاع الوطني أكثر من 15في المئة من ميزانية الدولة (4.25 مليار دولار) لتزيد عنها في ليبيا والجزائر وتونس... ولا تحتاج صياغة التقرير إلى من يقودك لعلاقة ذلك بسياسات الحكم عموما باتجاه روشتة البنك الدولي والإجراءات الاقتصادية، أو إلى مسعاهم للانتقال من إطار برشلونة الذي يكاد يتسم بالفشل إلى درجة "الوضع المتقدم" في الاتحاد الأوروبي وإنْ "بأكثر من الشراكة وأقل من العضوية"! وهنا تقفز السياسة الأميركية بالمغرب مع بقية دول المغرب العربي من ناحية ودول الصحراء الأفريقية من ناحية أخرى لتضم هذه "الكتلة" أو التحالف كلاً من الجزائر وموريتانيا والنيجر ومالي وتشاد والسنغال ونيجيريا، وبمشاركة وحدات إسبانية وهو ما يسمى حديثا القيادة الأميركية الأفريقية "أفريكوم"... التقرير إذن مليء بالموضوعات المغرية، وقد اقتحمها الباحثون بموضوعية مدهشة، فيما ذكروه، وحتى فيما أغفلوه... وقد وددت لو أتيح لي عرض الكثير منه أيضاً عن علاقات المغرب الأفريقية، خاصة وثمة نقاط ملفتة مثل شعور المغرب بتحدٍ ثلاثى الجزائر/ جنوب أفريقيا/ نيجيريا، والدلالة المهمة لدخول المغرب لمجلس الأمن دوره 12/2013 عقب هذا الثلاثي التحدي، وما يبدو من تأثيره على قضية الصحراء.. الخ . ومثلما يعرض التقرير بتفصيل مفيد لعلاقات المغرب مع أفريقيا ومناطق "الجوار" و"التعاون"... يعرض للدول العربية، بل ولمحاورها تجاهه، مثل حالة مصر والسعودية ، ويكشف عما يغيب عنا في المشرق أحيانا من كليات تأثير الموقف من الإصلاح السياسي والاقتصادي أو أمانة جامعة الدول العربية على درجة الفتور أو التحسن بين هذه الدولة أو تلك. "التقرير الاستراتيجي المغربي" ثروة مغربية ومشرقية بحق، وما يرد فيه من معالجات داخلية مغربية يفوق ما عرضناه عن العلاقات الخارجية، وهو يحتاج لعودة، خاصة إلى أقسامه الحيوية عن التنظيمات السياسية، والحركة الإسلامية، وما يفرده "لحصيلة عمل خمس سنوات من تشكيل المعهد الملكي للثقافة الأمازيغية، والتي نشعر بالحاجة الشديدة لفهم وضعها في هذه المنطقة الثقافية المهمة؛ فقد يساعد ذلك العالم العربي أن يتفهم بعمق أكثر أهمية "التنوع الثقافي" من داخله، وفي مشرقه ومغربه.