نعم إنها الدبلوماسية الحقيقية، وأقصد بها الدبلوماسية الموازية التي تؤثر كثيراً على العالم، ولكن نجهل في كثير من الأحيان معالمها ونتغاضى عن تطوراتها. إنها النتيجة التي خلص إليها المركز المغربي متعدد التخصصات للدراسات الاستراتيجية والدولية في منتدى فاس السنوي الذي انعقد منذ أيام في موضوع الدبلوماسية الدينية والثقافية في خدمة السلم والأمان في العالم، وأفضت مختلف تحليلات المتدخلين والمعقبين والمعلقين المنتمين إلى مشارب حضارية وثقافية مختلفة إلى عدة توصيات نذكر من بينها: التأكيد على أهمية الدبلوماسية الدينية والثقافية ضمن العناصر المكملة للدبلوماسية الرسمية؛ الحرص على أن تضطلع الدبلوماسية الدينية والثقافية بمزيد من الأدوار في حل المشاكل والأزمات، ومواجهة التعقيدات في العلاقات الدولية، وتفعيل دور الإعلام والرأي العام بهذا الصدد؛ وأهمية بلورة دبلوماسية دينية تلهم الشعوب التحرك الإيجابي المشترك في مواجهة التحديات؛ ثم ضرورة تفعيل دور الدبلوماسية الموازية في حل النزاع العربي/ الإسرائيلي، وإقامة دولة لشعب فلسطين على غرار باقي شعوب العالم وعاصمتها القدس الشريف؛ وأهمية الاستفادة من الجاليات الإسلامية في الخارج لدعم سبل وقنوات الدبلوماسية الدينية والثقافية لخلق روح تفاهم أفضل بين الشعوب؛ ومناشدة كل الجهات المعنية بالثقافة على أن تعمل من أجل إنشاء مرصد ثقافي يكلف بمهمة ترجمة الأعمال الثقافية ذات الأهمية في إطار التفاعل الحضاري والثقافي؛ ومناشدة كافة الدول والحكومات والأفراد الفاعلين والأحزاب السياسية ووسائل الإعلام بالابتعاد عن كل ما من شأنه أن يسيء إلى الأديان والرموز الدينية التي تعمق الخلاف وتغذي الكراهية؛ والتأكيد على أهمية الاستفادة من وسائل الإعلام والتقنية المتقدمة كمصدرين للمعلومات في إطار دعم قنوات الدبلوماسية الدينية والثقافية ومواجهة الأفكار السلبية المترتبة على عالم العولمة والأزمة الاقتصادية العالمية. وبالنظر إلى معاني وأهداف هذه التوصيات نرى أن المخططات الكلاسيكية لتحليل وتوجيه العلاقات الدولية أصبحت متقادمة، فالنظريات التي كانت تجعل من الدولة وحدة تحليل أساسية وفاعلاً رئيسيّاً في النظام الدولي، لم تعد صائبة، وكانت في وقتها تساهم بشكل كبير وفعال في تكييف تفكير صناع القرار (خاصة في أميركا) وتصرفاتهم في السياسة الخارجية؛ فدور الدولة تراجع بشكل كبير في إطار العولمة، إذ نقلت سلطة الدولة واختصاصاتها إلى مؤسسات عالمية تقوم بتسيير العالم وتوجيهه، وهذا إعلان ضمني عن النهاية القريبة لسيادة الدولة ولنهاية الحدود، وتكامل حقل الجغرافيا السياسية. إن التوصيات سالفة الذكر لم توجه حصراً للدول، وهي المعنية بالدبلوماسية الرسمية، وإنما وجهت للمنظمات الدولية، ووسائل الإعلام، والجمعيات، والمؤسسات الدينية والثقافية بل والأفراد؛ فكما أن المنظرين في العلاقات الدولية يسجلون تحديّاً للعولمة في مظهرها الاقتصادي لفكرة الواقعية، والتي تعني أن الدول هي وحدات اقتصادية مستقلة بقواعدها ومواردها الخاصة، حيث لم تعد هذه المقولة قائمة في عالم اليوم، فإنهم يجب أن يبوِّبوا باباً جديداً في نظريات العلاقات الدولية يسمى بـ"العولمة الدبلوماسية" لأن هذه الدبلوماسية لم تعد حكراً على رئيس دولة أو وزير خارجية أو السفارات والقنصليات التي تعتمدها الدول في تواصلها الخارجي؛ فبعض القنوات العالمية مثلاً أصبحت جزءاً لا يتجزأ من النظام الدولي؛ وتأثير بعض الأفراد على الساحة الدولية يمكنه أن يتعدى تأثير بعض الدول مجتمعة؛ فزيارة رئيس دولة الصين في أبريل 2006 لمدير شركة مايكروسوفت "بيل جيتس" إبان سفره الرسمي إلى الولايات المتحدة الأميركية قبل أن يلتقي برئيس أميركا له كثير من الدلالات. إن العالم كما ذهب إلى ذلك "فريدريك شاريون" أضحى أكثر تعقيداً، ولكن ليس من العسير قراءته لهذا السبب، كما ليس من الصعب توجيهه نحو الأفضل بسبب غيوم الظلام السائدة في محركاته، فبالإمكان إنتاج أفراد واقعيين ومسؤولين يتحكمون في استهلاكهم للقيم والشعارات السائدة ويفصلون بين مختلف مصادر المعلومات والخطابات المتاحة ويؤثرون هم بدورهم على وسائل الإعلام لتكون أكثر واقعية وموضوعية. إن الساحة الدولية اليوم تكبر وتتقوى عبر استراتيجيات فاعلين اجتماعيين يتزايدون يوماً بعد يوم، وهؤلاء الفاعلون الجدد الذين ينطلقون من مجتمعاتهم هم من يحملون لواء الدبلوماسية الموازية وهم من ينبغي مخاطبتهم، وهم المؤثرون فعلًا على صيرورة النظام الدولي، وهنا أستحضر الكاتب البنيوي نيكولا أونوف عندما حاول تفسير الأنساق الدولية، حيث ركز على البعد الاجتماعي لدراسة السياسة الدولية، وانطلق من الاعتقاد القائل: إن الكائنات البشرية اجتماعية بطبعها، فالعلاقات الاجتماعية هي التي تجعلنا بشراً وتشكلنا في الصورة التي نكون عليها، ويؤكد "أونوف" على أن أي تحليل للحياة الاجتماعية يتوجب أن ينطلق من التركيز على القواعد، وتعني: «حكماً يخبر الناس ما الذي ينبغي أن يفعلوه». وأفضل مثال توقف عنده المشاركون في تحليلهم للدبلوماسية الدينية والثقافية هو أزمة الشرق الأوسط، وكيف أن الدبلوماسية العربية والأميركية والأوروبية (الدبلوماسية الرسمية) فشلت في فرض تطبيق الشرعية الدولية وإرجاع الحقوق المغتصبة للفلسطينيين، وكيف أن الدبلوماسية الموازية لم تستثمر بالطريقة التي يجب خاصة من طرف العرب. فالدعم الذي تتلقاه إسرائيل من أميركا ليس لسواد عيونها، ولكن بسبب قوة وسطوة اللوبي اليهودي في أميركا الذي يضرب له ألف حساب، وله كلمته الأخيرة في كثير من المجالات الحيوية خاصة في مساندة انتخاب وقرارات الرئيس الأميركي. أما مجالات تدخل الدبلوماسية الموازية من جهة العرب فضئيلة إن لم نقل إنها منعدمة خاصة من طرف أبناء الجالية العربية، وهي الوحيدة التي بإمكانها إن فعلت، أن تشرح للشعب الأميركي حقيقة ما يقع في الأرض المحتلة وخلق دبلوماسية مضادة تكون أنجع من الدبلوماسية الرسمية. ويقيني أن خدمة السلم والسلام في العالم تتوقف صياغتها على تفاعل الأفراد وليس الدول، وذلك تبعاً لتشابك المصالح الفكرية والمادية وطريقة استهلاك وتوزيع المعارف والمعلومات، وهوية الفاعلين وعقائدهم وقيمهم ودرجات تقاسم الثقافة المشتركة فيما بينهم؛ ووحدنا نستطيع أن نجعل العالم إما عالماً فوضويّاً أو عالماً سلميّاً.