يتطلع لبنان وأصدقاؤه في مختلف أنحاء العالم إلى صدور الاتهامات الجنائية إلى مرتكبي جريمة اغتيال رفيق الحريري. ويبدو أن المحققين في هذه القضية على وشك إكمال تحقيقاتهم، وأنهم يستعدون لرفع تقريرهم النهائي إلى محكمة الجزاء الدولية، ربما خلال بضعة أيام فحسب. واعتماداً على ما وصف بأنه "تسريبات" عن تقرير لجنة التحقيق، فإن هناك ما يشير إلى اتهام بعض أعضاء "حزب الله" بارتكاب الجريمة. وفي إطار الاستجابة المبكرة لما سيعقب توجيه الاتهامات هذه، هناك نشاط دبلوماسي محموم لتهدئة التوترات المحتملة. غير أن "حزب الله" اتجه نحو التصعيد ونجح في شل نشاط الحكومة، بينما أصدر تهديدات غامضة نوعاً ما، أكد فيها عدم سماحه باتهام أي من كوادره أو أعضائه. وبسبب هذه التهديدات، تزايدت المخاوف من عودة لبنان إلى الاضطرابات المدنية أو إلى ما هو أسوأ من ذلك بكثير. وقبل حدوث أي ردود فعل استباقية لما يمكن أن يتضمنه تقرير المحققين، فإن علينا الأخذ في الاعتبار ببعض الأمور. أولاً، لا أحد يعلم بعد ما توصل إليه المحققون. كما لا ندري شيئاً عمن ستوجه إليهم الاتهامات، ولا البينات الجنائية التي يقدمها المحققون لدعم اتهاماتهم. فكل الذي يدور النقاش عنه الآن مجرد شائعات تطلقها جهات عدة مشكوك في مصداقيتها، اعتماداً على ما يوصف بأنه "تسريبات" من تقرير التحقيق الجنائي. وعليه، فإنه ليس علينا أن نتساءل عن أداء المحكمة الدولية، وإنما عن هذه الحملة النشطة الرامية إلى تقويض عمل المحققين الدوليين. وعلينا أن نتساءل أيضاً عن الأسباب والكيفية التي ينظم بها هذا الجهد من أجل شجب مسبق لنتائج تحقيق جنائي ما زلنا لا ندري عنها شيئاً. وطالما لم توجه الاتهامات بعد لأي شخص، كما لم يتضح أي شيء عن البينات الجنائية كذلك، فإن تنظيم حملة تهدف إلى شجب محكمة الجزاء الدولية، إنما هو فعل سابق لأوانه في أحسن الفروض، وفيه ما يثير الشكوك في دوافع من يقفون وراء هذه الحملة أنفسهم. كما أن علينا أن نتذكر أن الاتهامات تظل مجرد اتهامات بعد إعلانها، ولا يمكن أن توصف في مرحلة توجيهها إلى الأشخاص المعنيين بأنها أحكام قضائية أو إدانات. وحسب الإجراءات، فسيرفع تقرير المحققين المختوم إلى قاض يقوم بدراسة القضية ليقرر خلال مدة تتراوح بين ستة إلى ثمانية أسابيع فيما إذا كان محتوى التحقيق يوفر دليلاً كافيّاً لتوجيه الاتهامات الجنائية للأشخاص المعنيين. ولن تصدر أوامر الاعتقال إلا بعد أن يوافق القاضي الذي ينظر في القضية على المضي فيها قدماً. وعلينا أن نذكر أنه وفي هذه المرحلة الأخيرة فحسب، سوف تعلن رسميّاً أسماء الأشخاص الموجهة إليهم الاتهامات. ثم تعقب ذلك إجراءات المحاكمة الجنائية، يقدم فيها طرف الاتهامات ما لديه من بينات بنيت عليها الاتهامات، بينما يكون في وسع من يواجهون الاتهامات الدفاع عن أنفسهم ورد الاتهامات عنهم، إما بالطعن في البينات الجنائية التي قامت عليها الاتهامات، أو بتقديم بيناتهم التي تظهر براءتهم وتخلي سبيلهم قضائيّاً. فهذا هو الإجراء القانوني الذي سيتبع، ويتوقع له أن يكون مفتوحاً وعادلاً وشفافاً، ويحفظ العدالة للمجتمع اللبناني بأسره، في ذات الوقت الذي يوفر فيه الضمانة الكافية للمتهمين بدفع الاتهامات الموجهة إليهم وإثبات براءتهم منها، في محاكمة مفتوحة وعلنية. ولكن مما يثير المخاوف بحق، أن هناك ما يشير في لبنان إلى عزم على عدم السماح باستمرار إجراءات محكمة الجزاء الدولية. ويقول هؤلاء إن على لبنان أن يوفق ما بين العدالة ووحدته الوطنية. وفي اعتقادي الشخصي أن هذا خيار خادع مضلل. والصحيح أن على لبنان أن يبقى وطناً وأمة موحدة، في ذات الوقت الذي يزدهر فيه باعتباره دولة ديمقراطية. وبالنظر إلى طول مدة الحرب الأهلية التي مزقت لبنان قريباً جداً، وقوة حضور أحداثها في الذاكرة على نحو لا ينسى، وعندما نأخذ في الاعتبار كذلك بكثرة عدد الشخصيات التي تم اغتيالها خلال العقود الأخيرة الماضية، فإنه لا يمكن السماح للتهديد بالعنف، أو الاستئساد على الآخرين أن يحددا الطريق الذي يتعين على لبنان المضي فيه لتسوية خلافاته الداخلية. وفيما لو أراد لبنان المحافظة على وحدته، والازدهار بصفته دولة ديمقراطية حرة، فإن عليه أن يتجاوز أسلوب التهديدات هذا، وأن يتفق على تسوية خلافاته إما عبر الحوار الحر العلني المفتوح، أو عبر صناديق الاقتراع، أو أمام المحاكم القضائية المفتوحة. وتشير استطلاعات الرأي العام التي أجريناها -في مؤسسة زغبي العالمية لاستطلاعات الرأي- إلى وجود اتفاق بين معظم اللبنانيين، وفي مختلف الفصائل والتقسيمات الطائفية. كما تشير نتائج استطلاعات الرأي، إلى تطلع معظم اللبنانيين إلى الوحدة الوطنية والمصالحة، جنباً إلى جنب مع المطالبة بتحقيق العدالة في جريمة اغتيال الحريري، وأيضاً أولئك الذين أزهقت أرواحهم معه، وكذلك من تم اغتيالهم في السنوات اللاحقة لاغتيال الحريري. وقد أصاب الشعب اللبناني في اتفاقه هذا دون شك. وهذا ما يعيدنا إلى زيف شعار "الوحدة أو العدالة" الذي يجب التخلي عنه لأنه يقوم على حجة خادعة، ويقدم تصوراً مضللاً لحل المشكلة. ذلك أن لبنان في أشد الحاجة إلى الوحدة والعدالة معاً.