في كتابه الشهير "ثروة الأمم"، يقول "آدم سميث" إن وظيفة الملك هي "حماية المجتمع من العنف والغزو الذي تقوم به المجتمعات الأخرى، وهي مهمة لا يمكن إنجازها سوى بالقوة المسلحة". ولما يزيد عن قرنين ظل ذلك القول المأثور عن سميث يستخدم كنقطة مرجعية في مسألة تنظيم وتحليل العمل الحكومي، كما وجد طريقه بصيغة أو أخرى إلى العديد من الخطب التي ألقاها زعماء سياسيون بارزون في مناسبات مختلفة. لكن عندما أعلن رئيس الوزراء البريطاني ديفيد كاميرون عن برنامجه التشريعي مباشرة بعد انتخابات مايو الماضي، بدا أن الأولويات التي حددها سميث قد تغيرت. فالجملة الثانية في خطاب تكليف الحكومة الذي ألقته الملكة في الخامس والعشرين من ذلك الشهر، تعلن بوضوح أن الأولوية الأولى بالنسبة للحكومة الجديدة هي "تقليص العجز، واستعادة النمو الاقتصادي". إن التحدي الذي تطرحه هذه الأولوية على الحكومة، هو إظهار أنها تمتلك الحكم السليم على الأمور، كما تمتلك الكفاءة، وربما الحظ الذي يمكنها من إيجاد نوع من التوازن الدائم بين الأمن القومي والدفاع من جهة وبين الاقتصاد المتعافي، وهما حتميتان سياستان جوهريتان ولازمتان لتحقيق استقرار أي مجتمع ونجاحه. بعد تلك الانتخابات بوقت قصير، شرعت الحكومة البريطانية في إجراء "مراجعة شاملة للاستراتيجية الدفاعية والأمنية" للبلاد. وكان الدافع الرئيسي لتحرك الحكومة السريع في هذا السياق، هو الإدراك السائد بأن الأمن والدفاع واقعان في خضم أزمة مالية عميقة وطويلة الأمد. وكانت هناك دوافع أخرى منها الضغوط التي تتعرض لها القوات المسلحة مع نقص في المعدات نتيجة للالتزامات العملياتية السابقة والحالية، والشعور العام السائد بأن الإطار الاستراتيجي الوطني كان قد بدأ يتفكك. و"مراجعة الاستراتيجية الدفاعية والأمنية" تشتمل على وثيقتين رئيسيتين: نسخة معدلة من الاستراتيجية الأمنية الوطنية السابقة، مع وثيقة جديدة تماماً تتعلق بـ"مراجعة الدفاع والأمن الاستراتيجي". كانت هناك العديد من الأسئلة المثارة من خلال المناقشات المتخصصة بين العسكريين البريطانيين، مثل: هل ستفقد البحرية الملكية حاملات الطائرات التي كان مخططاً للحصول عليها؟ وهل سيفقد الجيش المزيد من كتائب المشاة؟ وهل سيتم التخلي عن مشروعات باهظة التكلفة مثل مشروع إيجاد رادع نووي بديل للغواصة "ترايدنت"، لتأمين الحصول على المخصصات اللازمة للوفاء باحتياجات القوات المسلحة التقليدية؟ والسؤال الذي يطرح نفسه هنا: كيف يمكن الحكم على وثيقة "مراجعة الدفاع والأمن الاستراتيجي"؟ يمكن ذلك من خلال معرفة أن أي استراتيجية تضم مكونات كل منها يقدم منظوراً مهماً بشأن تلك الوثيقة: المكون الأول، أن الاستراتيجية تتعلق بالنواحي الإجرائية بمعنى تحديد من الذي سيقوم بكذا، وكيف سيقوم به من أجل الوفاء بمتطلبات الاستراتيجية؟ المكون الثاني، أن الاستراتيجية تتعلق بالغرض أو الهدف؟ وهنا تثار عدة أسئلة: ما الذي تعنيه الحكومة حين تتحدث عن استراتيجية الأمن والدفاع؟ وما هي السياسات والأنشطة التي حددتها الاستراتيجية والتي تسعى لإنجازها؟ وما هي الأشياء المعرضة للخطر وممن تحديداً؟ وكيف توصل الحكومة رؤيتها والغرض الذي تتوخاه إلى البرلمان، والرأي العام، ووسائل الإعلام والحلفاء؟ المكون الثالث، أن الاستراتيجية تتعلق بالمستقبل. فنجاح أي استراتيجية يعتمد ليس فقط على التكيف مع الحاضر ولكن على التعامل مع مستجدات المستقبل أيضاً. المكون الرابع والأخير، أن الاستراتيجية تتعلق بالقيمة التي يمكن تعريفها بأنها تمثل نسبة الوظائف إلى التكلفة. وواجب الحكومة بعد ذلك هو العمل على تحقيق التوازن بين إقامة اقتصاد صحي ووضع دفاعي وأمني كفؤ وفعال. لكن كيف تضمن الوثيقة أن القيمة الاستراتيجية لم يتم تقليصها؟ وهل يمكن للحكومة البريطانية أن تفكر وتتصرف استراتيجياً في ذات الوقت الذي تقلص فيه النفقات وتوفر الأموال؟ هنا يقفز إلى الذهن سؤال آخر: هل يمكن من خلال ذلك كله تحديد ما إذا كانت مراجعة الاستراتيجية الدفاعية والأمنية البريطانية قد نجحت أم لا؟ للإجابة ينبغي أولاً لفت الانتباه إلى أن الحكومات البريطانية المتعاقبة كانت تتبع نمطاً خاطئاً في تطوير سياساتها الدفاعية، وأن النتيجة المحتمة لذلك النمط الخاطئ هي دائرة من مراجعات الاستراتيجية غير الكاملة وغير القابلة للاستدامة، وهي دائرة عقيمة. وإذا ما أخذنا في اعتبارنا الظروف التي تمر بها القوات المسلحة البريطانية هذا العام، من التزام عملياتي، وقيود صارمة على الإنفاق الحكومي عموماً والدفاعي خصوصاً، وأخذنا في اعتبارنا تذبذب الأفق الاستراتيجي وعدم ثباته، فالاحتمال الأكبر هو أن دائرة مراجعات الاستراتيجية الدفاعية والأمنية الفاشلة ستستمر هذا العام أيضاً. ومع ذلك يقول خبراء الاستراتيجية إن هناك منطقة وسط، بين النجاح الواضح والفشل الصريح، تسمى "تدبر الأمر في تنفيذ مراحل الميزانية". والمقصود بذلك أن تحاول وزارة الدفاع التوصل إلى معنى استراتيجي وعملي من ميزانية غير كافية. وربما يكون ذلك وصفاً منصفاً لما تقوم به الوحدة الجديدة المعروفة باسم "وحدة الإصلاح" التابعة لوزارة الدفاع والتي ستضطلع بصياغة "وثيقة مراجعة الاستراتيجية الدفاعية والأمنية" العام المقبل. ويمكن للوزارة أن تستخدم الميزانية الدفاعية غير الكافية بحكمة وتدبر وبراعة من خلال الاستثمار في الموارد التي تؤدي لتعظيم القيمة، بالتركيز على المخرجات الدفاعية أو الوظيفية بدلاً من التركيز على المدخلات. ويمكن بالإضافة لذلك تحسين قيمة المراجعة الاستراتيجية، وذلك من خلال تحسين نسبة الوظيفة إلى التكلفة عبر الاستثمار في الاستخبارات، والإشراف، والاستطلاع، وتقنيات الاتصالات، والنظر إليها ليس كـ"مضاعِفات قوة" لقوات مسلحة تقليدية آخذة في التقلص، وإنما باعتبارها قيمة استراتيجية لـ"تعظيم المخرجات" واستخدام تلك القوات التقليدية بفعالية. وعندما تقوم بذلك، فإن وزارة الدفاع سوف تجد نفسها وقد استثمرت في قدرات وإمكانيات سينظر إليها بأقصى تقدير ممكن من قبل الحلفاء، كما ستكون مفيدة لأوضاع قائمة على أساس تحليل وإدارة المخاطر الاستراتيجية. ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ بول كورنش رئيس برنامج الأمن الدولي في "شاتهام هاوس" ينشر بترتيب خاص مع "تريبيون ميديا سيرفس"