مرت علينا الأسبوع الماضي ذكرى هجرة الرسول محمد عليه الصلاة والسلام من مكة إلى المدينة، تلك الهجرة التي غيرت وجه التاريخ، فلم تعد الدنيا بعدها كما كانت. جاءت هذه الهجرة وفق الأمر الرباني الذي نفذه الرسول عليه الصلاة والسلام كمؤمن، ولكنه محب لوطنه. وقد قال عليه الصلاة والسلام وهو يغادر مكة والله إنك لأحب أرض الله إليَّ، ولولا أن أهلك أخرجوني منك ما خرجت. وظل محمد عليه الصلاة والسلام متعلقاً ببلده الذي ولد ونشأ فيه، حتى أنه عندما كان يُصلي وهو في المدينة تجاه المسجد الأقصى في فلسطين، تمنى لو أن مكة المكرمة كانت هي قبلته حتى جاء الأمر الرباني بتحويل القبلة من القدس إلى مكة المكرمة،. ما سبق يتضمن معاني نفسية كبيرة، منها أن البلد الذي ولد فيه الإنسان له حب فطري في قلبه، ولكن الله تعالى في بعض الأوقات يبتلي الإنسان في ما يحب حتى يكون إيمانه خالصاً له وحده. وحب المخلوق الحقيقي إنما يكون لربه الذي خلقه وأكرمه وأمره بالسجود له، وكل حب يبعد عن ذلك الحب، فهو شرخ في عقيدة المؤمن، لذلك نرى في السُنة المشرفة أحاديث مثل: "تعس عبد الدرهم، تعس عبد الدينار ....". ومصدر هذه التعاسة لا يكمن في حب المال والبنين، ولكن عندما يكون حبهما أحب لك من حب الله تعالى. والاختبارات تثبت لك يومياً مصداقية الحب الذي نتكلم عنه، فعندما يأتي حول المال ويجمع الإنسان ويطرح حتى يخرج زكاة ماله التي أمره الله تعالى بها، إن كان حب المال في نفسك أعظم من حب الله، فإنك قد تتردد ولا تخرج المال الذي أمرك الله أن تخرجه، لأنه أصلاً ليس مالك، ولكنه مال الله الذي أعطاك إياه، فإن كان المال أحب إليك من الله، فإنك لن تخرج زكاة مالك، وإما إن كانت نفسك مطمئنة إلى حبيبها الفعلي وهو خالقها، فإنك ستشعر بفرحة غامرة في قلبك لأنك أثبت صدق هذا الحب لله تعالى بأن أخرجت هذا المال. وهكذا يبتلي الله تعالى عباده بالخير والشر كي تخلص المحبة له سبحانه. ومن هنا أنكر الرسول عليه الصلاة و السلام على من هاجر من مكة إلى المدينة لامرأة ينكحها أو دنيا يصيبها كما جاء في حديث" إنما الأعمال بالنيات، وأنما لكل امرئ ما نوى".لقد هاجر البعض لمثل هذه الأمور، وإنما شرعت الهجرة لله وحده لاشريك له. ونجد أن كل الفتوحات الإسلامية والإنجازات الحضارية تتحقق في هذه الأمة وفق مصداقية هذا الحب لله تعالى، فبعد أن نجح الصحابة في هذه الاختبارات فتخلوا عن أوطانهم وعن أموالهم لله تعالى لاشريك له، جاءتهم الدنيا تركض لهم وتحقق كل ما يتمنون في حياتهم، فقد رجع الرسول عليه الصلاة والسلام إلى مكة في عام الفتح، وهو يردد جاء الحق وزهق الباطل إن الباطل كان زهوقاً، وهدمت الأصنام كي لا يعبد غير الله تعالى، ولكن قبل أن تتحطم الأصنام المادية كان العرب قد حطموها في قلوبهم بصدق الحب لله وإخلاص العمل له. بعد هذه المقدمة أقول لنا جميعا: أما آن لنا أن نهجر كل حب يشغلنا عن حب ربنا، وهكذا يكون الإنسان قد هاجر لله تعالى.