عندما دخل أوباما إلى البيت الأبيض في اليوم التالي لأدائه القسم الرئاسي، وجد في مكتب الرئيس تمثالاً لرأس ونستون تشرشل رئيس الحكومة البريطانية أثناء الحرب العالمية الثانية. وكان سلفه في المنصب بوش، إعراباً عن تقديره وإعجابه بتشرشل وبمبادئه السياسية قد وضع التمثال حتى يبقى مصدر إلهام له. غير أن أول عمل قام به أوباما هو إخراج التمثال من المكتب، ومن البيت الأبيض كليّاً. ولما سأله مساعدوه ماذا تريد منا أن نفعل به، أجاب: أعيدوه إلى بريطانيا. وبالفعل أعيد تمثال رأس تشرشل إلى لندن حيث تحتفظ به الحكومة البريطانية هناك. إن هذه الحادثة تطرح علامتي استفهام؛ الأولى: لماذا كان بوش معجباً بتشرشل؟ والثاني: لماذا أبدى أوباما هذا الحجم من الكراهية لتشرشل، وهذا الامتعاض من وجود التمثال في مكتبه؟ للإجابة على علامتي الاستفهام، أو بالأحرى هذين السؤالين، لابد من إعادة فتح ملف التاريخ السياسي لرئيس الحكومة البريطانية الأسبق. وهو ما فعله المؤرخ "ريتشارد توي" في كتابه الجديد "إمبراطورية تشرشل: العالم الذي صنعه تشرشل. والعالم الذي صنع تشرشل". في هذا الكتاب يروي المؤرخ سلسلة من الوقائع التي أغفلها التاريخ عن الأدوار السياسية والعسكرية التي اضطلع بها تشرشل في مراحل ما قبل تسلم رئاسة الحكومة البريطانية. والواقعة التي تهمّ أوباما شخصياً ليست بالضرورة هي الأهم ولا الأبرز. ويقول المؤرخ توي في كتابه إنه خلال تولي تشرشل المسؤولية في كينيا أثناء الاحتلال البريطاني، اعتقلت القوات البريطانية مجموعة من الوطنيين الكينيين الذين كانوا ينشطون ضد الاحتلال. وكان من بينهم حسين أونيانو أوباما جدّ الرئيس الأميركي باراك أوباما. وتؤكد الوثائق الرسمية البريطانية أن الاعتقال استمر لمدة عامين. وأن المعتقل تعرّض للتعذيب العنيف بإشراف تشرشل نفسه. فقد كان أوباما -الجدّ- أحد قادة حركة وطنية ضد الاحتلال البريطاني. وقد يبدو ردّ فعل الرئيس الأميركي ضد وجود تمثال لتشرشل في مكتبه الرئاسي رد فعل شخصيّاً. غير أن سلوك تشرشل وتصرفاته في كل الدول الأخرى التي استعمرتها بريطانيا حيث تولى هو مسؤولية ما فيها، يؤكد أن ما تعرض له جدّ أوباما على يديه كان تعبيراً عن عقيدة راسخة لديه ترجمها في السياسات التي اعتمدها في تلك الدول. فأساس عقيدته، كما قال المؤرخ "توي" هو "أن الرجل الأبيض متفوق على الرجل الملون، وأن عليه أن يلحق الهزيمة بالشعوب البربرية والسيطرة عليها من أجل تمدينها وتحضيرها". ومن الأمثلة التي يقدمها المؤرخ "توي" على ذلك، أفغانستان. ويقول إنه في "وادي سوات" كان الأهالي يقاومون القوات البريطانية لأن هذه القوات صادرت أراضيهم، وهو ما كان سيفعله البريطانيون لو أن قوة أجنبية احتلت أراضيهم. غير أن تشرشل رفض تلك الفكرة واعتبرهم مجرد "جهاديين إرهابيين يخضعون لغريزة القتل المتأصلة في نفوسهم وفي مجتمعهم". وينقل المؤرخ عن تشرشل في مذكراته عن تلك الحقبة قوله: "كم كانت سعادتنا كبيرة عندما كنا نقوم باجتياح الوديان التي يقيمون فيها (الأفغان)، فقد كنا ندمر القرى، الواحدة بعد الأخرى، ونهدم البيوت، ونحطم الآبار وننسف الأبراج، ونقطع الأشجار، ونحرق المحاصيل الزراعية وندمر خزانات المياه". ومن الأمثلة الأخرى التي يقدمها المؤرخ "توي" نقلاً عن مذكرات تشرشل نفسه، الدور الذي قام به في السودان. فقد ذكر تشرشل أنه "قتل رمياً بالرصاص على الأقل ثلاثة من المتوحشين"، أي السودانيين المقاومين للاحتلال البريطاني! ودافع تشرشل في مذكراته بحرارة عن معسكرات الاعتقال الجماعية التي أقامتها القوات البريطانية التي كان هو عاملاً فيها في جنوب إفريقيا. ويقول إن هذه المعسكرات تسببت في الحد الأدنى من معاناة المعتقلين. غير أن هذا الحد الأدنى يتمثل في مقتل 14 ألف إفريقي من أصل 115 ألفاً زجوا في تلك المعتقلات. وعندما انتخب عضواً في البرلمان (مجلس العموم) في عام 1900، دعا في خطبة شهيرة له إلى توسيع دائرة النشاطات الاستعمارية لأن الإنسان الآري -حسب نظريته- محكوم بالانتصار. وقد ذاق الإيرلنديون الكاثوليك مرّ العذاب على يديه عندما كان وزيراً للمستعمرات في عام 1920، فقد وصفهم بأنهم مثل السود والملونين لمجرد أنهم كاثوليك. وخلال فترة الاحتلال البريطاني للعراق، قام الأكراد بعملية تمرد ضد الاحتلال. يومها قال تشرشل: "إنني أؤيد بشدة استخدام الغازات السامة ضد القبائل غير المتمدنة". ولا يُعرف ما إذا كانت القوات البريطانية قد استخدمت الغازات في ذلك الوقت، ولكن من الثابت أن الرئيس العراقي السابق صدام عمل بنصيحة تشرشل الإجرامية. ويعكس كتاب المؤرخ "توي" مدى كراهية تشرشل للهند وشعوره بالاستعلاء على الشعب الهندي. ويقول إنه عندما أطلق المهاتما غاندي حركته السلمية لتحرير الهند قال تشرشل: "يجب اعتقال غاندي وربطه من يديه ورجليه فوق بوابة دلهي ثم سحقه تحت أقدام الفيلة". وينقل المؤرخ عنه قوله أيضاً: "إنني أكره الهنود. إنهم شعب متوحش. وأصحاب ديانة متوحشة". وعلى أساس هذه المشاعر كان كل ما فعله تشرشل عندما وقعت المجاعة الرهيبة في البنغال إعلانه: "إن هؤلاء الناس يتوالدون مثل الأرانب".. ورفض لأشهر عديدة تقديم أية مساعدة لهم في الوقت الذي كان يموت فيه منهم مئات الآلاف جوعاً! وفي ضوء هذه الوقائع التاريخية يمكن فهم أمرين؛ الأول سبب إعجاب بوش بتشرشل، ومحاولة الاقتداء به في العراق وأفغانستان.. أما الثاني فهو سبب مبادرة أوباما إلى إخراج تمثال تشرشل من مكتبه في البيت الأبيض وإعادته إلى بريطانيا.