أرسل لي أحدهم من غزة مُعبِّراً عن فرحه الهائل بانتصار قطر في فوزها باستضافة المونديال الذي سيكون بعد اثني عشر عاماً. لكن كلفة اللعبة الكروية ستصل عشرات المليارات من الدولارات الأميركية، وهو رقم خرافي كافٍ لإعمار غزة والسودان والضفة الغربية والجولان وبناء ما دمرته سيول المغرب ولبنان وفيضانات بنجلادش وزلازل تركيا وجفاف تشاد، بل وتسوية بعض الخلافات السياسية العربية أيضاً. كذلك جاءني زميلي منفرج الأسارير يضحك جذلان، لأن العرب حققوا النصر المبين على أميركا؛ فانتزعوا منها هذا الشرف التاريخي، ليثبتوا جدارتهم في التنظيم والإشراف. وأنا أعلم أنه لابد أن يتم الاعتماد في الكثير من ذلك على الطليان والألمان والفرنساوية واليابان، وبرواتب كبيرة، لمائة ألف وظيفة منذ ساعة الإعلان. ويقولون إن تكاليف حراسة أوباما حين زار إحدى الدول العربية بلغت 500 مليون دولار، لكن ألا يكفي ذلك المبلغ لصيانة السدود، وبناء بيوت نظيفة محل بيوت المقابر ومدن الصفيح، تلك التي تطالعني في كل زيارة، فأراها تزداد فوضى وخراباً وغباراً، فلا يمر عليك منتصف النهار حتى يسودُّ قميصك، وتخرج من أنفك كتل سوداء من القطران والزفت، من بيئة ملوثة كمدخنة القاطرة والقطارات! إنه يمكننا بمبالغ كتلك أن نعمل عشرات المشاريع التي تبقى عشرات السنين، مثل مد أنابيب مياه من تركيا. وقد قرأت في الآونة الأخيرة تقريراً مخيفاً أعدّته لجنة مائية ألمانية من (دارمشتات) عن وضع المياه في الجزيرة العربية؛ فهم يبحثون عن الماء المتبقي في تصدعات الأرض منذ العصر الجليدي قبل 25 ألف سنة، أي والله قبل 25 ألف سنة! وإن عواصم عربية عملاقة معرضة لأخطار الجفاف بعد ثلاثين سنة، وليس ثمّة أمامها سوى اللجوء إلى تحلية المياه، والتي ستكون مرارة في الجيب لا نهاية لها، وسيدفع الناس ثمن قطرة كل ماء. أليس جديراً بنا منذ الآن أن نبرم اتفاقاً مع تركيا على سبيل المثال، وفق صيغة المال مقابل الماء، قبل أن نهلك عطشاً؟ تقول القصة إن وصياً كان يأتي بغلام في كل عام؛ فيقول له: أي بُني، أموالك هي كذا وكذا، وقد أنفقنا هذا العام ثمن كذا نعالا للجِمال! كان الوصي يكرر ذلك على مسامع الغلام في نهاية كل عام. حتى إذا رشد الغلام قال: يا عماه، لكن ما أعرفه أن الجِمال لا توضع لها نعال! قال: الآن رشدت، فهذه أموالك أردها لك، وإنه كان مجرد امتحان لنضجك. وعلى ما يبدو فإن العرب أيضاً سيظلون يدفعون ثمن نعال الجمال إلى أن يرشدوا ويبلغوا سن النضج. وقد جاء في الحديث الشريف: "رُفعَ القلمُ عن ثلاثة؛ عن النائم حتى يستيقظ، وعن الصبي حتى يبلغ، وعن المجنون حتى يعقل". ويبدو أن هذا القانون ينطبق على الأمم والشعوب أيضاً، والتي يُرفع القلم عنها حتى تبلغ وترشد.