الكتاب الذي نعرضه هنا يلامس موضوعاً قديماً، لكنه ظل متجدداً مع توالي فصوله عبر التاريخ وتلاحق الأحداث التي تجعله على الدوام بؤرة للصراع والتوتر في منطقة بالغة الأهمية في العالم. فالكتاب، وعنوانه "إطفاء اللهب"، مرتبط بالشرق الأوسط، وتحديداً بالصراع الفلسطيني الإسرائيلي، وهو يمنحنا فرصة ثمينة للتعرف على مواقف المثقفين الفرنسيين من الصراع باعتبار دورهم المحوري في رفد الحياة السياسة بالآراء والتصورات التي تصوغ بدورها علاقة فرنسا الرسمية بالصراع. ومع أن الدور الفرنسي تراجع خلال السنوات الأخيرة لصالح التدخل الأميركي الأكثر وضوحاً في منطقة الشرق الأوسط، فإن دور المثقف الفرنسي مازال حاضراً في إثراء النقاش السياسي وساعياً إلى رسم ملامح الصراع وتفسيره حسب رؤيته للعالم. ولعل ذلك ما يميز الكتاب ويجعله جديراً بالاهتمام، كونه يعكس رؤية فرنسية مستقلة من خلال مثقفين ملتزمين ليس فقط بالهموم الداخلية لفرنسا، بل بالقضايا العالمية، لا سيما صراع الشرق الأوسط وإسقاطاته على الحقل السياسي الفرنسي. فالكتاب الذي يجمع بين مواقف المثقفين الفرنسيين في حوارهم الذي تشارك فيه المؤلفة، يكشف عن الاختلاف الجوهري في رؤى أولئك المثقفين للصراع وجذوره العميقة، فمن ناحية لا يخفي طيف من اليسار الفرنسي انتقاداته لإسرائيل باعتبارها أولا القوة المحتلة للأراضي الفلسطينية، وباعتبارها ثانياً الطرف غير الملتزم بالقرارات الدولية ذات الصلة، لكن من ناحية أخرى يرى طرف مغاير، ومنه محررة الكتاب الرئيسية إليزابيث سميكلا، أن الحركة الصهيونية ليست عنصرية، بل حركة تستمد شرعيتها من مطالب اليهود بإقامة وطن قومي لهم يقيهم من المآسي التي تعرضوا لها على مر التاريخ. بيد أن الخلاف بين المثقفين الفرنسيين ليس وليد اللحظة، بل يرجع إلى سنوات قبل ذلك عندما شنت سميكلا حملة إعلامية شرسة على بعض المفكرين المناصرين للقضية الفلسطينية، مثل باسكال بونيفاس الذي كتب مقدمة الكتاب، متهمة إياهم بمعاداة السامية بسبب مواقفهم المساندة للتطلعات الفلسطينية والمناهضة للسياسة الإسرائيلية. وفيما ناقشت سميكلا جذور الصراع وأبعاده المختلفة؛ يرجع بونيفاس، مستنداً إلى تقليد أوروبي أصيل، إلى العوامل السياسية التي تؤثر سلباً على العلاقات بين إسرائيل والفلسطينيين، مشيراً لبعض القضايا الجوهرية مثل الاحتلال والاستيطان الذي بات حجرة عثرة حقيقية في طريق السلام، ورفض إسرائيل الانسحاب إلى حدود 67، أو الاعتراف بحق اللاجئين في العودة، رغم وضوح القرارات الدولية في هذا الشأن. أما سميكلا فتعيد الصراع إلى العامل الديني الذي تعتبره مهماً ومؤثراً في مسيرة الأحداث، فتجادل بأنه لا فائدة من مطالبة "حماس" بتغيير ميثاقها، أو الاعتراف بإسرائيل، لأن ذلك يخالف مرجعيتها الدينية القائمة على أبدية الصراع مع الآخر اليهودي. وهكذا، فإذا كان المثقف اليساري ينظر إلى الدين كعامل مصاحب للصراع، ترى سميكلا أن الدين هو المحدد الأساسي لذلك الصراع. لكن ما تناسته المؤلفة في غمرة تبنيها للمقاربة الثقافية، هو الدور الذي يلعبه الدين عند الآخر اليهودي، فإذا كانت المقاومة تستند إلى العامل الديني، فلا يعني ذلك أنها منزوعة الشرعية ما دامت تهدف إلى إجلاء الاحتلال وإقامة دولة للشعب الفلسطيني، لاسيما وأن إسرائيل لا تخفي أساسها الديني كدولة لليهود لا تقبل غيرهم إلا كأقلية مهيضة الجناح، كما تؤكد ذلك القوانين العنصرية الأخيرة التي أقرها الكنيست والتي تربط بين المواطنة والولاء ليهودية الدولة. غير أن الطريقة التي جعلت بها المؤلفة الدين في بؤرة الصراع، تغلق المجال أمام الحلول السياسية، وهي نظرة يعتبرها أصحاب المقاربة العلمانية لا تاريخية تلغي الاعتبارات الدنيوية وتحكم على الصراع الفلسطيني الإسرائيلي بالأبدية. ويعكس الخلاف بين الموقفين انقساماً في الساحة الفكرية الفرنسية حتى داخل اليسار نفسه، غير أن الخلاف ظاهرة كرستها الحياة الديمقراطية الفرنسية، لذا ليس غريباً أن يكون الموقفان معاً، على تباينهما، جزءاً من اليسار الفرنسي بأطيافه المتعددة. ويقدم الكتاب لمحة عن انقسامات الغرب إزاء القضية الفلسطينية، ليساعد بالتالي العرب على فهم طبيعة الموقف الغربي، فهو ليس تياراً واحداً يتبنى رؤية أحادية، بل يتوزع بحسب التوجه السياسي للأطراف المعنية، ما يفتح فرصاً لاستثماره ومحاولة عرض الرؤية العربية. زهير الكساب الكتاب: إطفاء اللهب المؤلفة: إليزابيث سميكلا الناشر: فلاماريون تاريخ النشر: 2010