الآن وقد أصبح لدينا وقت لاستيعاب محتويات ما يزيد عن 250 ألف وثيقة مسربة للصحافة من قبل موقع "ويكيليكس"، لنا أن نتساءل: ما هي الاستنتاجات التي يمكن استخلاصها من ذلك الكم الرهيب من الوثائق؟ رغم أن تلك التسريبات مثلت خرقاً خطيراً لنظام أمن المعلومات الأميركي، فإن الضرر السياسي المترتب عليها هو من النوع الذي يمكن احتواؤه على نحو أو آخر؛ علاوة على أن العديد من تلك البرقيات، وخصوصاً تلك المتعلقة منها بآراء الدبلوماسيين الأميركيين في القادة الأجانب، لم تكن بالشيء غير المتوقع. صحيح أن هناك بعض الأقوال والتصريحات التي اضطرت وزيرة الخارجية للاعتذار عنها، إذ شكلت إحراجاً للولايات المتحدة في علاقتها بالشركاء والحلفاء الأجانب؛ لكن إذا ما نظرنا إلى تلك التصريحات بمجملها، فسندرك أن السلك الدبلوماسي الأميركي يمارس عمله بدرجة عالية من الاحترافية، ويفعل بالضبط ما يفترض أن يفعله، وهو تقديم تقارير واضحة وأمينة لوزيرة الخارجية حول المصاعب اليومية التي يواجهونها خلال عملهم في الدول المعنية، وكذلك التحديات التي تقف حجر عثرة في سبيل تنفيذ أجندة السياسة الخارجية الأميركية، والعمل مع الأصدقاء والحلفاء. وهذه الوثائق، لا تظهر صناع السياسة الأميركية كأناس منخرطين في أعمال شائنة ضد الدول الأجنبية، بل يمكن القول إن معظم التعليقات التي وردت على ألسنة الدبلوماسيين الأميركيين في الوثائق المسربة، قد ساهمت في تحسين صورة مؤسسة الخارجية الأميركية، وبددت الأوهام الهوليوودية، ونظريات المؤامرة الأجنبية، حول نوايا الدبلوماسيين الأميركيين. والحقيقة التي تكشفت من خلال تلك الوثائق، وهي أن الولايات المتحدة منخرطة بهمة في محاولات حل المشكلات العالمية بدلاً من الترويج لخياراتها بشن الحرب، كما كان الكثيرون يدعون، هي حقيقة ينبغي للمجتمع الدولي أن يكون ممتناً للولايات المتحدة من أجلها. وهناك، بالطبع، لغة خشنة استخدمت من قبل هؤلاء الدبلوماسيين، وخصوصاً في معرض حديثهم عن الزعماء الأفغان الذين تصورهم الوثائق كقوم غارقين في الفساد، بيد أن ذلك لم يكن بالأمر المفاجئ أيضاً. كذلك ثمة أنباء سيئة تكشف عنها هذه القصة برمتها. فحقيقة أن جندياً أميركياً عادياً يدعى "برادلي ماننج"، كان قادراً على تنزيل هذا الكنز من البرقيات، يبين بجلاء أن إجراءات الرقابة على المعلومات السرية داخل الحكومة الأميركية تتسم بقدر كبير من الإهمال والتسيب. وجزء من هذه المشكلة يرجع إلى أنه في أعقاب هجمات الحادي عشر من سبتمبر، صدرت تقارير رسمية مفادها أن السبب في عدم رصد أنشطة ونوايا خاطفي الطائرات، في الفترة التي سبقت تنفيذهم تلك العمليات، كان هو الغياب الكامل لتقاسم المعلومات بين وكالة الاستخبارات المركزية الأميركية (سي. آي. إيه)، ومكتب التحقيقات الفيدرالي (إف. بي. آي) كما تبين بعد ذلك من التحقيقات حول القصور الأمني للأجهزة الاستخباراتية الأميركية. والحقيقة أن الأسلوب الذي كان متبعاً بالنسبة لأمن المعلومات في تلك الفترة، والمعروف بأسلوب "أنابيب الموقد"، والذي كان يتم بموجبه جمع المعلومات وإرسالها إلى مصدر وحيد، وعدم توزيعها لمصادر أخرى، قد أدى إلى رد فعل عكسي تكشف لنا من خلال تسريبات "ويكيليكس". فما كشفت عنه تلك التسريبات هو أن هناك قدراً مبالغاً فيه من تقاسم المعلومات أدى إلى حدوث ما حدث. وهذه حقيقة تستلزم من المسؤولين الأمنيين الأميركيين اتخاذ إجراءات محكمة للسيطرة على تدفق المعلومات داخل شرايين الأجهزة الحكومية. هناك مشكلة أخرى سوف تنتج عن هذه التسريبات، وهي أن الدبلوماسيين، الأميركيين والأجانب، سوف يصبحون من الآن فصاعداً أقل انفتاحاً وأقل صراحة مع بعضهم بعضاً، خشية حدوث تسريبات، وهو ما سيقود بالطبع إلى مزيد من السرية. ومن المؤكد أن المناقشات غير الرسمية (أي غير المسموح بنشرها) التي ستجرى من الآن فصاعداً بين المسؤولين الأجانب ونظرائهم الأميركيين، سوف تتسم حتماً بانخفاض الشفافية، كما ستؤدي إلى جعل مهمة المؤرخين أكثر صعوبة بما لا يقاس، مما هي عليه الآن. وحقيقة أن المعلومات التي تسربت، لم تتسبب حتى الآن في ضرر بالغ غير قابل للإصلاح، لا تعني أنه يمكن السماح بتكرار ما حدث في المستقبل، أو أن شيئاً مماثلاً لن يحدث مرة أخرى. فحدوث شيء مماثل مستقبلاً أمر وارد ،خصوصاً أن لا أحد يعرف، على وجه الدقة، كم المعلومات التي لا تزال بحوزة موقع ويكيليكس، والتي لم يقم بتسريبها حتى الآن. ومن الواضح أن الموقع، أو بالأحرى مؤسسه "جوليان أسانج"، لديه اعتقاد راسخ بأنه يؤدي رسالة سامية من خلال تسريب تلك المعلومات، وهو اعتقاد نابع من الموقف المعادي الذي يتخذه تجاه الولايات المتحدة التي يصفها بأنه قوة عظمى جوفاء وخطرة. وإذا ما أخذنا في الاعتبار ردة الفعل ضد "ويكيليكس" و"أسانج"، فسيمكننا استنتاج أنه ستكون هناك جهود حثيثة لكبح جماح أنشطة الموقع من خلال التدخل القانوني. ومن غير المرجح أن"أسانج" الذي قبض عليه في لندن، على خلفية اتهام له بالتحرش الجنسي وجهته له السلطات السويدية، سيستطيع ممارسة حياته بشكل طبيعي قريباً، خاصة إذا ما عرفنا أنه تعرض للاستجواب من قبل محققي وزارة العدل الأميركية، ويمكن بالتالي أن تصدر بحقه إدانة بممارسة التجسس من قبل المحاكم الأميركية. ويشار في هذا السياق أيضاً إلى أن عدداً من أعضاء الكونجرس الأميركي قد طالبوا بترحيله من بريطانيا إلى الولايات المتحدة. ورغم أن بعض المدافعين المثابرين عن الحرية بشكل عام، وحق التعبير بشكل خاص، يعارضون كافة المحاولات الرامية إلى اتخاذ إجراءات صارمة ضد "أسانج"، إلا أن معظم الأميركيين يعتبرونه شخصاً مارقاً. ومن سوء الحظ أن حلقات مسلسل ويكيليكس التي يشهدها العالم حالياً، ليست سوى جزء مما يدور خلال معركة رقمية جديدة تقع في الفضاء الإلكتروني. ويمكن للمشكلات الناتجة عن تلك المعركة أن تتفاقم، إلى أن يتم العثور على وسيلة فعالة لتنظيم الإنترنت بشكل أفضل مما هو عليه الحال حالياً.