من يمعن النظر في الملابسات والسياقات المرتبطة بالأعمال العنيفة التي تقع بسبب تنازع الهويات، يجد أن وجاهة ورسوخ وتأثير التصورات التي تبرر العنف تختلف باختلاف المدى أو القدر الذي يتوفر فيه للساخطين الشعور بالانتماء إلى جماعة معينة. ويتولد هذا الشعور ويتعزز عبر مجموعة من المعاني والرموز التي تجعل الناس واعين بحالات السخط المشتركة بينهم، ومدركين في الوقت ذاته حجم تواجد الجماعة أو المنظمة التي تضمهم بين جناحيها، وواثقين من قدرتهم إن توحدوا على أن ينتفضوا ضد من يضطهدهم أو يقهرهم. ومثل هذا الوضع دفع عالم السياسة ديفيد شوارتز إلى القول: "إن الإغراءات الثورية تكون ناجحة بمقدار ما توفّر الشعور بالانتماء إلى جماعة تاريخية معتدة بنفسها، حتى لو كانت من صنع الخيال". وبينت بعض الدراسات التي عنيت بتحديد "الاتجاهات التعصبية" أن الأفراد يكونون صورة إيجابية عن الجماعة التي ينتمون إليها، وحين يضعونها موضع مقارنة مع الجماعات الأخرى. وهذا التمييز الإيجابي الذي تفرضه الهوية يقف خلف العديد من أشكال التحيزات السلوكية والتقويمية والإدراكية، التي يتم إنتاجها في ركاب التنافس بين الجماعات وتبني الأفراد لاستراتيجيات التعامل مع "الآخر". وعلى وجه العموم، يتم تجنيد الأفراد والجماعات في حركات التمرد من خلال نوعين رئيسيين من الإغراء، الأول يرتبط بالولاء السياسي، والثاني يتعلق بالإغراءات المترتبة على الشعور بالهوية، والذي يرتبط بتكوين صورة ذهنية سيئة عن الطرف الآخر، تراه على النحو الذي أجمله عالم النفس السياسي قدري حفني على النحو التالي: 1 - الآخر عميل أو مأجور أو ساذج جاهل، ولا يوجد شخص عاقل نزيه يمكنه قبول ما يتفوه به الجانب الآخر من ترّهات. 2 - لم يعد الحوار مع الآخر مجديّاً، وقد استنزفنا معه كافة إمكانيات الحوار، وهو لا يفهم إلا لغة القوة، وهو البادئ بالعدوان، والتفاهم معه لا يعني سوى الضعف أو التخاذل. 3 - الآخر هو الخارج على الأصول الصحيحة، سواء كانت هذه الأصول هي الدين أو المذهب أو القانون أو الأيديولوجيا أو المسار السياسي، أما نحن فملتزمون بتلك الأصول. 4 - الآخر لا يمثل إلا أقلية، أو لا يعدو أن يكون "قلة مندسة" أما نحن فنحظى بتعاطف الأغلبية. 5 - الآخر جامد لا يتغير، حتى لو قال بعكس ذلك، فأقواله خديعة، وحديثه عن التغيير وهْم. 6 - الآخر يودي بنا إلى الاغتراب، سواء بدفعنا إلى مستقبل مجهول، أو سحبنا إلى ماضٍ سحيق لا صلة لنا به. 7 - كلهم أعداء، ولا فروق جوهرية بين المفكرين منهم والمنفذين أو بين الموافقين والمعارضين، وما تنوعهم واختلافهم سوى خديعة لنا، أو توزيع أدوار علينا. 8 - من الضروري أن ننقي صفوفنا من المتخاذلين، الذين يدعون إلى حوار مع أعدائنا، فهؤلاء إما قاصرو فهم سذج، أو هناك من غرر بهم وضللهم، أو هم عملاء مزروعون بيننا، أو تصمهم عزيمة خائرة تجعلهم غير قادرين على المواجهة. والصراع حول الهوية آفة عرفتها البشرية طيلة تاريخها المديد، بدءاً من التناحرات العشائرية والقبلية وحتى صراع الدول والإمبراطوريات والحضارات. وصراع الحضارات هو المشهد الأخير في استخدام الهوية كرأس حربة ضد "الآخر". وهنا يقول صمويل هنتينغتون: "إن الفرض الذي أقدمه هو أن المصدر الأساسي للنزاعات في هذا العالم الجديد لن يكون مصدراً أيديولوجيّاً أو اقتصاديّاً في المحل الأول. فالانقسامات الكبرى بين البشر ستكون ثقافية، والمصدر المسيطر للنزاع سيكون مصدراً ثقافيّاً. وستظل الدول/ الأمم هي أقوى اللاعبين في الشؤون الدولية، لكن النزاعات الأساسية في السياسات العالمية ستحدث بين أمم ومجموعات لها حضارات مختلفة، وسيسيطر الصدام بين الحضارات على السياسات الدولية، ذلك أن الخطوط الفاصلة بين الحضارات ستكون هي خطوط المعارك في المستقبل". والحضارة في نظر هنتينغتون هي "أعلى تجمع ثقافي للناس، وأوسع مستوى للهوية الثقافية للشعب، ولا يسبقها إلا ما يميز البشر عن الأنواع الأخرى، وهي تتحدد في آن معاً بالعناصر الموضوعية المشتركة مثل اللغة والدين والتاريخ والعادات والمؤسسات". لكن ما هي الحضارات التي ستتصادم؟ ولماذا؟ .. من وجهة نظر هنتينغتون فإن التصادم سيقع بين سبع حضارات موجودة في عالمنا المعاصر، هي الغربية، والكونفوشيوسية، واليابانية، والإسلامية، والهندية، والسلافية الأرثوذكسية، والأميركية اللاتينية، وربما الإفريقية. والسبب في هذا التصادم يكمن، في رأي هنتينغتون، في ستة عناصر أساسية، أولها أن الفروق بين الحضارات مسألة جوهرية، حيث هناك اختلاف بينها في التاريخ واللغة والثقافة والتقاليد، والدين، وهو الأهم في هذا المضمار. وهذه الفروق أكبر من الاختلافات بين الأيديولوجيات السياسية، وقد نشبت على مر القرون الماضية نزاعات مريرة جراء هذه الاختلافات. وثاني هذه العناصر، أن عملية التحديث الاقتصادي والتغير الاجتماعي أضعفت الأمة كمصدر للهوية، وفككت الهويات المحلية القديمة، وفتحت الطريق أمام الدين ليملأ هذه الفجوة. أما الثالث فهو أن العالم صار "قرية صغيرة"، بفعل ثورة الاتصالات، ومن ثم تزايدت التفاعلات بين الشعوب، الأمر الذي عزز الوعي بالاختلافات السابق ذكرها، والعداوات التي تضرب أو يعتقد أنها تضرب بجذورها في أعماق التاريخ الإنساني. ويرتبط العنصر الرابع بخصائص الفروق الثقافية ذاتها، إذ أنها أقل قابلية للتبدل. فإذا كان السؤال الرئيسي في النزاعات الطبقية والأيديولوجية هو: إلى أي جانب نقف؟ وكان في مقدور الناس أن يختاروا الجانب الذي يميلون إليه، فإن السؤال المثار في النزاعات بين الحضارات هو: من أنت؟، وتلك مسلَّمة لا يمكن تغييرها. ويتمثل العنصر الخامس في تنامي الدور الذي تلعبه الخلفية الثقافية في النزعة إلى إقامة التكتلات الاقتصادية. ويتعلق العنصر السادس بالدور المزدوج حيال الغرب، فهناك اتجاه للانكفاء إلى الداخل والعودة إلى الجذور في بعض المناطق من العالم، وفي المقابل صارت الجماهير في أماكن أخرى أكثر تعاطيّاً مع القيم الغربية، بعد أن كانت النخب فقط في الماضي هي الموالية للغرب.