دخلت "بوركينا فاسو" التاريخ الطبي بداية هذا الأسبوع، كونها أول دولة في العالم شرعت في تعميم تطعيم جديد ضد التهاب السحايا، أو الحمى الشوكية، يعقد كثيرون عليه الآمال في تخليص جزء كبير من القارة الإفريقية من هذا المرض القاتل لكثير ممن يصابون به. وفي الوقت الحالي يعيش أكثر من 450 مليون شخص، في 25 دولة إفريقية، ضمن ما يعرف بحزام مرض الحمى الشوكية، الممتد من أثيوبيا شرقاً إلى السنغال غرباً. ويعتبر التطعيم الجديد المعروف باسم "مين-آفري-فاك" (MenAfriVac)، اختراقاً هائلاً على صعيد تطوير، وتمويل، وتنفيذ، حملات التطعيمات الطبية ضد الأمراض المعدية، مما يعِد بتغيير الخريطة الطبية لأماكن انتشار تلك الأمراض، ويبشر بإحداث خفض هائل في أعداد من يسقطون ضحايا لها. وتنتقل العدوى بالبكتيريا المسببة لالتهاب السحايا البكتيري عن طريق الإفرازات والرذاذ التنفسي من خلال العطاس أو الكحة أو الاشتراك في أدوات الطعام والشراب. وغالباً ما يتم هذا الانتقال بين الأشخاص الذين يقضون فترة طويلة من يومهم في أماكن مغلقة ومزدحمة، كما هو الحال مع طلاب المدارس والجامعات، وبين المجندين العسكريين. وتتراوح فترة الحضانة، أو الفترة بين حدوث العدوى وظهور المرض ما بين يومين إلى عشرة أيام، مع متوسط أربعة أيام في الغالب. وتتشابه أعراض الحمى الشوكية مع أعراض أمراض تنفسية أخرى مثل البرد العادي إلا أنها تتسم ببعض العلامات المميزة، حيث تظهر الأعراض في البداية على شكل حمى شديدة ومفاجئة، تتبعها قشعريرة وشعور بالبرودة، بالترافق مع بعض المظاهر العصبية مثل الدوخة والارتباك الذهني، والإصابة بصداع حاد مستمر لا تخففه المسكِّنات. ويعاني المرضى في المراحل الأولى من الشعور بضيق شديد من الإضاءة الساطعة، وعدم تحمل الأصوات المرتفعة، ليصابوا لاحقاً بتوترات عضلية خفيفة، تعقبها تشنجات شديدة وهذيان. وتعتبر النقطة الأكثر أهمية على الإطلاق في موضوع الحمى الشوكية هي ضرورة التعامل مع الحالات المشتبه بها على أنها طارئ طبي خطير، يتطلب العلاج داخل مستشفى على وجه السرعة. ويتسبب مرض الحمى الشوكية البكتيري، الهدف الرئيسي للتطعيم الجديد، في نسبة وفيات بين المصابين به من الأطفال الرضع وحديثي الولادة، تتراوح ما بين 20 في المئة و30 في المئة، أي أن طفلاً واحداً من بين كل ثلاثة أطفال يصابون بالمرض، يلقى حتفه في النهاية. وتنخفض نسبة الوفيات بقدر كبير بين الأطفال الأكبر سناً لتصل إلى 2 في المئة فقط، إلا أنها تعود لتشهد زيادة واضحة مرة أخرى بين البالغين، حيث تبلغ نسبة الوفيات بالمرض بين البالغين قرابة 40 في المئة. وهو ما يجعل الحمى الشوكية ضمن قائمة محدودة من الأمراض المعدية التي تؤدي إلى وفاة مثل هذه النسب الهائلة من المرضى. وكثيراً ما يتعرض من ينجو بحياته من الأطفال لإعاقات مستديمة، مثل الصمم العصبي- الحسي، والصرع، وصعوبة التعلم، والاضطرابات السلوكية، وانخفاض مستوى الذكاء لدى الأطفال. أما الناجون من الكبار، فكثيراً ما يتركهم المرض بضعف في السمع، أو بتدهور ملحوظ في القدرات العقلية والذهنية. وهو ما يجعل الحمى الشوكية تحديّاً صحيّاً خاصّاً وهائلاً، في الدول الإفريقية الخمس وعشرين الواقعة ضمن نطاق حزام الحمى الشوكية، وفي بعض مناطق العالم الأخرى، مثل الدول العربية كمصر، والسعودية، والمغرب، وموريتانيا، التي لا زالت تشهد هي الأخرى أوبئة متكررة من الحمى الشوكية. وهو ما ينطبق أيضاً على العديد من دول العالم الأخرى مثل الهند والصين والبرازيل، وحتى الدول التي تتمتع بنظم صحية حديثة ومتطورة، لا تسلم هي الأخرى من أوبئة محدودة النطاق من الحمى الشوكية بين الحين والآخر. وأمام هذا التحدي الصحي الخاص، كان لابد من تطوير تطعيم يتمتع بمزايا خاصة، قادرة على دعم الجهود الرامية لمكافحة المرض، وخفض ثمنه الإنساني الفادح. وأولى هذه المزايا، التي تم بالفعل تحقيقها في التطعيم الجديد، كانت خفض التكلفة بشكل يجعله في متناول حكومات الدول الإفريقية محدودة المصادر، حيث لا تزيد تكلفة الجرعة الواحدة من التطعيم الجديد عن نصف دولار فقط. وقد تم تحقيق هذا الهدف من خلال خفض دورة تطوير التطعيم، أو الفترة التي يستغرقها لانتقاله من مرحلة الأبحاث والدراسات إلى مرحلة التطبيق العملي السريري، ومن خلال خفض تكلفة التطوير والإنتاج في حد ذاتها، حيث تكلف تطوير التطعيم الجديد 50 مليون دولار فقط، مقارنة بالـ500 مليون دولار التي غالباً ما تحتاجها التطعيمات لاستكمال رحلتها من أطباق المعامل إلى العيادات والمستشفيات، وهو ما يشكل خفضاً بمقدار 90 في المئة عن التكلفة الاعتيادية. وبخلاف خفض تكلفة التطوير والإنتاج، وإذا ما عمم التطعيم الجديد على الدول الإفريقية جنوب الصحراء، وما سيترتب عليه ذلك من خفض في حالات الإصابة بالحمى الشوكية، فسيتم توفير 120 مليون دولار خلال الأعوام الخمسة القادمة من ميزانية نظم الرعاية الصحية، كانت ستنفق على إجراءات التشخيص والعلاج للحالات المصابة. وهذا المبلغ الضخم، بمعايير الاقتصادات النامية، يمكن حينها أن يوجه لمكافحة أي من الأمراض الأخرى التي تثقل كاهل دول المنطقة، في شكل من أشكال (مفعول الدومينو)، الذي يؤدي سقوط حجر منه إلى تساقط الأحجار الأخرى.