كثيراً ما كتبنا في العالم العربي عن وصفات صندوق النقد الدولي، وكثيرون رأوا الصندوق، ومعه البنك الدولي، على أنّهما أداتان استعماريتان غربيتان ضد الدول النامية. وكانت وصفاتهما سبباً في احتجاجات شعبية عارمة في أكثر من بلد نامٍ وعربي، وهي انتفاضات عُرفت بأسماء منها "انتفاضات الخبز". ومع تقديم صندوق النقد الدولي والاتحاد الأوروبي مبالغ ضخمة لكل من اليونان وإيرلندا لإخراجهما من أزماتهما المالية- الاقتصادية، ولمنع انهيار العملة الأوروبية "اليورو"، بدأ الحديث عن الاستعمار وتهديد السيادة، في تلك الدول. ففي اليونان انفجرت أواسط هذا العام مظاهرات عنيفة ضد خطط الإنقاذ الاقتصادي، وسقط قتلى في الاحتجاجات، ورسمت على الحيطان شعارات تذكرنا بشعارات الانتفاضة الفلسطينية، فبحسب تقارير الصحافة خطت شعارات من نوع "جورج اخرجْ (في إشارة إلى رئيس وزراء اليونان جورج باباندريو)، صندوق النقد الدولي اخرجْ، الولايات المتحدة اخرجي، الاتحاد الأوروبي اخرجْ". وإذن فدولة تعتبر فقيرة نسبيّاً، بمقاييس أوروبا، كان يعتقد أنّها من الأكثر استفادة من الانضمام للاتحاد الأوروبي، تجد فيها من يرفع شعارات طالباً من هذا الاتحاد الخروج من اليونان كما لو أنّ له قوات وأجهزة تستعمر اليونان. يقول جدعون راكمان في مدونته على موقع "فايننشال تايمز"، إنّه سأل قبل سنوات مسؤولًا ألمانيّاً في الاتحاد الأوروبي، في بروكسل، ماذا لو احتاجت دولة أوروبية للمال بشكل كبير بسبب أزمة؟ ويقول إنّ البرتغال كانت مرشحة لذلك، وسأله: ماذا لو احتاجت البرتغال ذلك؟ فرد المسؤول أنّه سيكون على باقي الاتحاد إقراضها، وأضاف مازحاً: "ستصبح البرتغال مستعمرة لبروكسل". وهذه المزحة تكتسب أهمية الآن، وتصبح في أذهان البعض أمراً جديّاً. أحد الشعارات التي رفعها متظاهرون في إيرلندا ضد مشروع المساعدات الأوروبية، وصَف المسؤول في صندوق النقد، الذي يفاوض إيرلندا، وهو آجيا شوبرا، الهندي الجنسية، بأنّه "الجزّار". ووصفت صحيفة "الهيرالد تريبيون" الدولية المشاعر في إيرلندا بأنّها "إحساس بفقدان السيادة". وما يلفت النظر أنّ هذه المواقف لا زالت في بدايات الأزمة، وأنّ الوصفات لم تصبح بعد أمراً واقعاً تماماً، فماذا سيحدث عندما يبدأ تسريح الموظفين الحكوميين؟ وتزداد نسب البطالة؟ وعندما يصبح مطلوباً قرارات وقوانين اقتصادية جديدة تمس بمصالح فئات عديدة؟ فهل سنرى انتفاضات خبز هناك؟ إن المشهد ربما يبدو مختلفاً قليلاً عن السابق، عندما كنا في العالم النامي نصف صندوق النقد الدولي والدائنين الدوليين بالاستعمار. فمثلًا تجعل السوق الحرة في هذه الدول تكرار المظاهرات على ارتفاع الأسعار أقل احتمالاً، لأنّ أسعار السلع الأساسية غير مدعومة حكوميّاً أصلاً، وهذا يقلل من احتمالات ارتفاعها. أضف إلى ذلك أنّ فكرة الاستعمار ستواجه بأنّ الدول التي تقدّم المساعدات سواء أكانت الولايات المتحدة (عبر الصندوق)، أو دولاً أوروبية، تعاني مشكلات مالية، وستتصاعد فيها الاحتجاجات على تقديم مساعدات لدول أخرى. ولكن غالباً سيتم خفض الإعانات الحكومية في بعض القطاعات، وستزداد نسب البطالة، مما يزيد فرص "انتفاضات الخبز". أضف إلى ذلك أن مثل هذه الوصفات، تمثل ورقة في يد الأحزاب والقوى الأوروبية الشعبية الرافضة أصلًا للوحدة الأوروبية. والراهن أن انقسام الأوروبيين إلى دائن ومدين، والمعارضة الشعبية لوصفات الإصلاح، كلها تؤدي إلى مشهد جديد لدور مؤسسات الاقتصاد العالمية، وقد تهدد فكرة الاتحاد الأوروبي الأساسية.