هناك أسئلة متعددة مثارة بصدد الأسس التي قامت عليها المشروعات الفكرية للتيارات السياسية الرئيسية في العالم العربي، وأسباب فشلها في الاستمرار والوصول إلى قواعد الجماهير العريضة. وهذه الأسئلة تتعلق في الواقع بالموضوع الرئيسي الذي سيطر على الساحة العربية في مرحلة زمنية امتدت لأكثر من نصف قرن، وهو صعود وسقوط الإيديولوجيات السياسية العربية كالليبرالية والماركسية والاشتراكية والقومية والأصولية الإسلامية. ومع ذلك لو أردنا أن نقدم عدداً من الملاحظات النظرية والمنهجية، التي ينبغي أن نأخذها في الحسبان حين دراسة الموضوع، يمكننا أن نعتمد على عدد من الدراسات العربية المهمة، ومن أبرزها دراسة محمد جابر الأنصاري "الفكر العربي ودراسة الأضداد"، 1996، وبول سالم "الحصاد المر: الإيديولوجيا والسياسة في العالم العربي"، 1994. يركز بول سالم في البداية -بعد أن يقدم تعريفات مركزة للإيديولوجيا- على أهمية تطبيق منهج تكاملي في دراسة الإيديولوجيا، وعلى علاقة نشأتها بالعوامل الاجتماعية والنفسية والسياسية. ويتبنى المنهج المقارن، لأن الإيديولوجيات كثيراً ما تختلط ببعضها بعضاً، وقد تتنافس أو تصطدم. وأهمية المدخل المتكامل الذي يقوم على تعدد المقتربات العلمية، أن الفهم الأعمق للإيديولوجيا يستدعي الدراسة المتزامنة لعدة متغيرات. وفي الوقت نفسه لابد من معرفة أن الإيديولوجيا عادة ما تشغل مكاناً وسطاً بين السياسة والدين والثقافة والجوانب النفسية. وفي مجال نشأة مفهوم الإيديولوجيا ذاته، عادة ما يرجعه الباحثون الثقات إلى الفيلسوف الفرنسي "دوستوت دي تراسي" Destutt de tracy الذي صاغه في نهاية القرن الثامن عشر. غير أنه من المقطوع به أن "كارل ماركس" -معتمداً في ذلك على فلسفة "هيجل"- هو الذي بلور المفهوم وأعطى له مضموناً محدداً على أثر مجمل العلم الاجتماعي من بعد. وهو التعريف الذي يذهب إلى أن الإيديولوجيا هي "الوعي الزائف الذي يتولد لدى جماعة اجتماعية معينة فيما يتعلق بوضعها في عملية الإنتاج". غير أن "ماكس فيبر" و"جرامشي" و"سورل" أسهموا جميعاً في إبراز أن الإيديولوجيا تمتلك ديناميكية مستقلة، وذلك للتخفيف من حدة الاتجاه المادي الذي تبناه ماركس. غير أنه يمكن القول إن "كارل مانهايم" هو الوحيد الذي صاغ نظرية متكاملة عن الإيديولوجيا حين فرق بين الإيديولوجيا واليوتوبيا. فالإيديولوجيا عنده هي الفكر الذي يبرر وضع جماعة متميزة، وأما اليوتوبيا فهي الفكر الذي يدافع عن حقوق جماعة مهضومة الحقوق، في حين أن المعرفة الحقيقية هي تلك التي تبنى على أساس معايير علمية. ولسنا في مجال الخوض في هذا الميدان النظري المزدحم بالتعريفات، غير أنه يلفت النظر في هذا المجال الى النظرية التي قدمها عالم الاجتماع الأميركي المعروف "إدوارد شيلز" وهي نظرية الضغوط الاجتماعية والنفسية Strain Theory، التي مبناها أن الإيديولوجيات عادة ما تنشأ كرد فعل لمجموعة ضغوط اجتماعية ونفسية، ناجمة عن عمليات اجتماعية أساسية، مثل عملية التحديث، التي غيرت موازين المجتمعات التقليدية. ولو طبقنا هذه النظرية على العالم العربي، لوضعنا أيدينا على عدة ظواهر أسهمت في نشأة الإيديولوجيات السياسية العربية. ولعل أهمها صدمة الهيمنة الاستعمارية على المجتمع العربي، ومحاولة بناء الدولة العربية المستقلة، والبحث عن مصادر جديدة للهوية، والسعي لصور مستحدثة للتكامل بين جماعات قبلية وسلالية ولغوية ودينية متعددة. وبعبارة أخرى فإن التغيرات السياسية والاقتصادية والثقافية الكبرى في المجتمع العربي، وانهيار نسق العقائد التقليدي، كان أحد أسباب الاستقبال الحار الذي قوبلت به نشأة الإيديولوجيات السياسية العربية. ويمكن القول إن الانهيار الحاسم لرؤية العالم القديمة جاء مع انهيار الإمبراطورية العثمانية وإلغاء الخلافة الإسلامية، والاحتلال الأوروبي لدول عربية شتى، وصعود الحركات القومية العربية. ومما لاشك فيه أن الفترة اللاحقة لنهاية الحرب العالمية الثانية، وعلى وجه الخصوص ضياع فلسطين عام 1948 بعد الهزيمة العربية، كان هو الحدث الدرامي العنيف الذي أثر على مجمل السياسة العربية المعاصرة، وكانت له مضاعفات خطيرة في مصر وسوريا والعراق. فقد نشأت جماعات سياسية لها نظرات جديدة، ولها مصالح وقيم جديدة، وباختصار إيديولوجيات جديدة. لقد شهدت مرحلة الخمسينيات صعود إيديولوجيات تسعى لتحقيق القوة والتقدم والرخاء. غير أن الممارسة الفعلية تثبت -كما يؤكد بول سالم بذكاء- أن العالم اختزل في فكرة، والفكرة اختزلت في كلمة، والكلمات اختزلت في نسق بواسطة مجموعات من الإيديولوجيين والخطباء الموهوبين، الذين رسموا صوراً جذابة -وإن كانت غير واقعية- ليوتوبيا عربية يسودها العدل وترفرف على جوانبها أعلام الحرية! غير أن اليوتوبيا سرعان ما مزقت صورتها الأحداث العنيفة في الستينيات، وأبرزها سقوط الوحدة العربية المصرية- السورية عام 1961. إلا أن أخطرها على وجه الإطلاق ولاشك هو الهزيمة الساحقة في يونيو 1967، ثم رحيل عبدالناصر عام 1970. وكل ذلك أدى إلى إغلاق دائرة تاريخية كاملة بكل تياراتها العنيفة، والانطلاق من بدايات جديدة، اتسمت بسيادة البراجماتية على الإيديولوجيا. وإذا ألقينا بعد ذلك كله نظرات عجلى على أسباب صعود وسقوط الإيديولوجيات السياسية العربية -والمقام لا يسمح بالتفصيل- لقلنا إنه بالنسبة لكل إيديولوجية محددة هناك أسباب محددة للصعود والسقوط. ولو نظرنا لليبرالية أولاً بحكم أنه أتيح لها أن تكون أسبق الإيديولوجيات السياسية الحديثة في التحقق والتطبيق، لأدركنا أن صعودها يرد إلى أن الطبقات المتميزة التي تبنتها كانت تمثل كبار الملاك، الذين حاولوا من خلال الاحتماء بقشور الليبرالية الغربية، ضمان استمرار وتأييد وضعهم الطبقي المتميز على حساب باقي طبقات الشعب المتوسطة والفقيرة، مما أدى إلى نشوء ما أطلق عليه "المشكلة الاجتماعية". أما الماركسية فمشكلاتها متعددة، ولعل أبرزها أنها كانت محاولة نخبوية لنقل وترجمة الأدبيات الماركسية بعد تحليل متعمق للواقع العربي في جوانبه الاقتصادية والسياسية والثقافية، وخصوصاً فيما يتعلق بالدور المحوري الذي يلعبه الدين في المجتمع. أما القومية، فإن خطابها الذي يدعو للوحدة العربية، كان خطاباً مثاليّاً متعاليّاً على الواقع، متجاهلاً للخصوصيات الثقافية في كل بلد عربي، بالإضافة إلى عدم الالتفات إلى تفاوت النضج الاقتصادي والاجتماعي في البلاد العربية. وإذا نظرنا إلى الاشتراكية التي حاول حزب البعث أن يطبقها، والتي ميزت أيضاً التجربة الناصرية، يمكن القول إن غياب الحرية السياسية بالإضافة إلى جمود التخطيط الاقتصادي، وعدم الإيمان بالتعددية، ومحاولة اختزال الحياة السياسية في حزب وحيد بزعم احتكار الحقيقة المطلقة، كل ذلك كان من أهم أسباب سقوط الإيديولوجية الاشتراكية. ولو جئنا أخيراً للإسلام الأصولي، لوجدنا أن تيار الإسلام السياسي حاول من خلال الفكر المتطرف استخدام الإرهاب كوسيلة لقلب النظم السياسية العربية العلمانية ولكنه سقط في الممارسة، ولفظته الجماهير. هذا بوجه عام عدد من الملاحظات الأساسية عن صعود وسقوط الإيديولوجيات السياسية العربية. ويبقى التحدي الأخطر، وهو هل سيستطيع المجتمع السياسي العربي أن يواجه مخاطر العولمة وإيجابياتها في الوقت نفسه، من خلال شحذ قدراته على التفاعل الحي والخلاق، عن طريق الارتقاء بمستوى الأداء السياسي وفتح الباب أمام الديمقراطية والتعددية واحترام حقوق الإنسان، والأداء الاقتصادي بتفعيل التنمية البشرية مع الاهتمام بالارتقاء بنوعية الحياة، وعدالة التوزيع، والأداء الثقافي من خلال حوار الحضارات والإسهام الفعال في إنتاج الفكر العالمي؟ هذا هو السؤال... فكيف ستكون الاستجابة؟!