أذكر أيام الدراسة في لبنان وأثناء التنقّل بين القنوات التلفزيونية اللبنانية كنت أشاهد بين الحين والآخر برامج تبثّ من الكنائس يتحدث فيها أشخاص يحملون ألقاباً غريبة ويرتدون ملابس غريبة ويتحدثون في أمور أكثر غرابة، ولم أكن أفهم أي شيء مما يقولونه وما يدعون إليه رغم أنهم كانوا يتحدثون العربية. وقبل فترة قررتُ أن أفهم المسيحية لأنني أزعم أنني كاتب وليس من المعقول أن أظل على جهل بأحد أكثر الأديان انتشاراً في العالم والذي يعتنقه ثلث البشرية وهو أقرب الأديان إلى ديني، فوجدت في الموسوعة الحرة "ويكيبيديا" مادة طويلة ومفصّلة عن المسيحية، وبعد دقائق من القراءة شعرتُ بالضياع بين المصطلحات الغامضة التي لا يمكن أن أتصوّرها في ذهني، والأسماء الغريبة التي يصعب عليّ نطقها، والأماكن التي لا أعرف أين تقع. قررتُ عندها أن أعود إلى المنابع، فمن المنابع الصافية يمكنني خوض البحر الغامض بعد ذلك. وليس هناك نبع مسيحي أصفى من "العهد الجديد". فأخذتُ أقرأ في الأناجيل الأربعة بصبر وتركيز، لكني لم أخرج من القراءة إلا ببعض العبارات الثمينة التي نُسبت إلى المسيح عيسى بن مريم وبعض الأحداث التاريخية أو المعجزات التي يؤيدها الإسلام كإحياء المسيح للموتى وإبراؤه الأكمه والأعمى. ووجدتُ في "العهد الجديد" باباً يُسمى "أعمال الرسل"، وهي مجموعة كبيرة من الرسائل منسوبة لأشخاص لم أسمع بهم من قبل موجهة إلى أهالي مناطق لم أسمع بها أيضاً، وأصبتُ بالملل والإحباط وأرجعت "العهد الجديد" إلى رفّ مكتبتي مكتفياً بمعرفتي بالمسيحية من وجهة النظر الإسلامية. وأستطيع الآن أن أتخيّل حال أي مسيحي في العالم، خصوصاً إذا لم يكن عربياً، وهو يحاول أن "يفهم" الإسلام بنفسه لأنه الديانة الثانية من حيث عدد المعتنقين في العالم، وكي يغيّر الصورة النمطية التي تشكّلت في ذهنه عن الإسلام من خلال البيئة والمدرسة والإعلام، ولأنه يسمع من المسلمين أن عدم فهم دينهم هو السبب في ظاهرة "الإسلاموفوبيا" أو الخوف من الإسلام. سيهرع هذا المسيحي إلى الإنترنت ليقرأ ما تقوله الموسوعة الحرّة عن الإسلام، وربما يستوعب في الوهلة الأولى المصطلحات المشتركة بين الإسلام والمسيحية كاليوم الآخر والملائكة والكتب السماوية والمعجزات والفضائل، وسيفرح كثيراً لأنه اكتشف الحقيقة بنقرة واحدة على لوحة المفاتيح، لكنه بعد حين سيشعر بالضياع مع ذكر السُنة ومذاهبهم الكثيرة، والشيعة وفرقهم العديدة، ومصطلح الحديث وأئمته وقطعية الثبوت والسنة المتواترة والإمامة والإسراء والمعراج وأسماء الصحابة وأمهات المؤمنين والتابعين والكعبة المشرّفة والصفا والمروة والجهاد والمهدي المنتظر وحروب الردّة والآلاف من المصطلحات والشخصيات والأمكنة والشعائر والعبادات. سيقرر العودة إلى المنابع الأصلية للإسلام، وليس هناك نبع إسلامي أصفى من "القرآن الكريم"، لكنه سيتوه مع أول كلمة وهي كلمة "مصحف" التي لا مرادف لها في لغته، وقد يجد أثناء ذلك أن أبابكر الصديق هو الذي جمع القرآن، وأن هناك مصطلح "مصحف عثمان"، والرسم العثماني، والقراءات السبع، وأجزاء القرآن وأسمائه العديدة، والناسخ والمنسوخ، والسور المكية والمدنية، وأسباب النزول وعلم التفسير، وأسماء سور القرآن. سيقرر البدء في قراءة ترجمة الآيات، وسيعاني معاناة لا يمكن تصوّرها، فإذا كنا نحن العرب والمسلمين نواجه صعوبة في فهم بعض آيات القرآن من دون الرجوع إلى المعاجم والتفاسير وأسباب النزول، فماذا سيفعل ذلك المسيحي؟ أعتقد أنه سيقرر الاكتفاء بما يعرفه عن الإسلام من خلال وجهة النظر السائدة في بيئته، وربما يقرر الانضمام إلى المتخوّفين من الإسلام، وربما يقرر الوقوف على الحياد، وفي أفضل الحالات فسيترك عمله وهواياته ويتفرّغ لفهم الإسلام.